الثورة بين الانكسار والانتصار

ت + ت - الحجم الطبيعي

ثورات ما يسمى بالربيع العربي أو بالانتفاضات الثورية العربية أو الحراك الشعبي العربي والتي بدأت في نهاية عام 2010 في تونس وبداية 2011 في مصر، ثم تتابعت حلقاتها في ليبيا واليمن وسوريا، كانت بمثابة إعلان واضح عن رغبة الشعوب العربية في التغيير.

وبصرف النظر عن المسميات المختلفة لهذه الثورات والانتفاضات، والتي لا تقف بالضرورة عند حدود اللفظ والتسمية، بل تتجاوزه إلى الموقف أو المواقف المختلفة الإيديولوجية والسياسية التي تنطلق منها هذه المسميات، فإن اعتقادنا أن مسمى الثورات ينطبق بصورة أفضل على هذه الحراكات الشعبية إن من حيث حجم المشاركة الشعبية أو من حيث الأهداف التي سعت إلى تحقيقها أو الرسائل التي حاولت توصيلها إلى الرأي العام والنظم الحاكمة والنخب على حد سواء.

بيد أن هذه الثورات انتهت إلى مآلات مختلفة تثير الكثير من التساؤلات حول حظوظها من النجاح والفشل. في هذا السياق فإن مؤشرات نجاح الثورة وإخفاقها لا تقاس في المدى المنظور أو عقب وقوع الثورات مباشرة، بل يقاس في المدى الطويل، ذلك أن الثورات قد تفشل، ومع ذلك تبقى مبادئها وشعاراتها في الوعي الجمعي للمواطنين.

حفل مسار ثورة 25 يناير عام 2011 بمفارقات حالت دون تحقيق أهدافها، من بين هذه المفارقات أن السقوط السريع لرموز ونظام مبارك في ثمانية عشر يوماً حمل الثائرين والثوار والقوى السياسية التي شاركت في صنع الحدث الثوري إلى الاعتقاد بأن أهداف الثورة قد تحققت ومن ثم لم تتح الفرصة لهؤلاء الثوار وهذه القوى السياسية التي شاركت في الثورة لتنظيم أنفسهم وخلق منظمات ومؤسسات بديلة، وكفيلة بقيادة التغيير وتوجيهه صوب تحقيق الأهداف المنشودة، بل على النقيض من ذلك بدا وكأن مرحلة ما بعد نجاح الثورة قد بدأت عبر الذهاب مباشرة إلى تعديل الدستور والانتخابات وكأن النظام الديموقراطي الذي كانت تنشد الثورة بناءه قد بدأ على الفور، في حين أن الواقع ومجرياته في هذه الفترة كان يشير إلى بدء مرحلة جديدة من الصراع المستمر بين القوى المدنية والثورية والعلمانية وبين قوى الإسلام السياسي المنظمة والتي تمتلك القدرات المالية والتنظيمية والعلاقات الإقليمية والدولية والتي لم تكن ترى في الثورة عندما لحقت بها متأخراً إلا فرصة ومناسبة للوصول إلى الحكم والسلطة.

هذه المسارعة المحسوبة والمنظمة إلى التعديلات والانتخابات أفضت في الواقع إلى قسمة عمودية للمجتمع، وشتت القوى الثورية وعزلتها وهمشتها، وبدأ الثوار كأقلية وإن كانت مؤثرة، وفاعلة مقارنة بالنتائج التي أفضت إليها الانتخابات وكذلك الاستفتاء على تعديل الدستور، وتحولت الثورة من مشروع كبير وتاريخي للتغيير إلى مشروع للحكم، يتنافس عليه الفاعلون الأساسيون في المشهد الذي أعقب الثورة ومن الطبيعي أن يفوز في هذا السباق الأكثر تنظيماً والأكثر قدرة مالية وتنظيمية.

أما ثانية هذه المفارقات فتتلخص في أن الخبرات والتجارب تشير إلى قدرة الثوار والثورة على إسقاط النظام القائم، عبر الحشد والتعبئة والاحتجاج السلمي، في حين أن قدرة الثوار والثورة على التخطيط لليوم التالي للثورة أو بناء النظام الجديد لا تساوي بحال قدرتهم على إسقاط النظام القديم، ولا شك أن هاتين المهمتين مختلفتان، فالأولى أن إسقاط النظام القديم تبدو سهلة، ذلك أن وصول المعارضة والاحتجاج عند هذا النظام إلى حد الثورة يعني استنفاد هذا النظام لقدراته وإمكانياته للتأقلم وتلبية التطلعات والاحتياجات القائمة في الواقع لمختلف القوى السياسية ومختلف فئات الشعب ومن ثم تبدو مهمة إسقاطه يسيرة وفي متناول الأيدي وغالبية النظم التي انهارت إن في العالم العربي أو أوروبا الشرقية استغرق انهيارها بضعة أيام، أما المهمة الثانية أي بناء نظام جديد فهي مهمة نوعية وشاقة تتطلب مهارات قيادية وتمرساً في العمل السياسي والثوري والتنظيمي، فضلاً عن بيئة قادرة على تقليص الاستقطاب وتعظيم فرص التوافق. أما ثالثة هذه المفارقات فتتمثل في صعوبة خلق التوافق حول القواعد الجديدة التي يلتزم بها الفاعلون في المشهد التي أعقب الثورة، تلك القواعد التي تمهد لقيام النظام الجديد وتحظى بالاحترام والتراضي العام، ومصدر هذه الصعوبة في التوافق يتمثل في افتقاد التوازن بين القوى السياسية والثورية والمدنية وبين قوى الإسلام السياسي والإخوان المسلمين في مقدمتهم.

Email