«جون كيري» الذي لم يقل شيئاً

ت + ت - الحجم الطبيعي

المشروع الذي تقدمت به مصر إلى مجلس الأمن بخصوص تسليح الجيش الليبي (قوات الفريق خليفة حفتر) بعد الحادث المروع الذي تعرض له 21 من مواطنيها على يد تنظيم داعش الإرهابي، بتحفظ من قبل الولايات المتحدة والدول الأوروبية الكبيرة ــ إنجلترا وفرنسا وإيطاليا واسبانيا - حيث استبقت الجلسة ببيان موحد يحظر «التدخل في الشأن الليبي» رغم أن الأوضاع في ليبيا تعد جزءاً لا يتجزأ من الأمن القومي المصري بحكم الحدود المشتركة معها من الناحية الغربية.

وقد لا يكون الأمر مفاجئا، فأميركا طوال تاريخها في المنطقة تسعى فقط للحصول على غطاء سياسي عربي لتحركاتها العسكرية وتحالفاتها التي تنشأ بموجبها (مثلما حدث في حرب الخليج الثانية) ولكنها لا تسمح بالعكس، أي أن تأخذ دولة عربية بزمام المبادرة لتشكيل تحالف إقليمي يحظى بالشرعية الدولية.

وفي المقابل، أعلن البيت الأبيض عن قرب استضافته في واشنطن لقمة موسعة لمكافحة الإرهاب لوضع أجندة مشتركة للتحرك المستقبلي وهو ما روج له وزير الخارجية الأميركي جون كيري في مقال له نشر منذ أيام بصحيفة الشرق الأوسط اللندنية تحت عنوان «صعود التطرف يمثل تحديا لنا جميعا» في رسالة موجهه إلى العالمين العربي والإسلامي. فماذا قال المقال؟

بعد المقدمة النمطية عن خطورة التطرف والإرهاب المصاحب له والإقرار بالضرورة الملحة لمواجهته عسكريا كجزء من هذه المواجهة، أكد على أن الأخيرة لا تكفي وحدها لإحداث التغيير على المدى الطويل وأن الأمر يحتاج إلى «حوار عالمي» يضع أجندة مشتركة لكيفية التصدي له (وكأننا نعود هنا الى المربع رقم واحد بعد مرور ما يزيد على عقد من الزمان من انطلاق الحرب الدولية على الإرهاب)!

وفي نفس السياق، يشير إلى أهمية تغيير المعطيات السياسية والفكرية التي تشكل البيئة الحاضنة له، وأولى هذه الخطوات تكمن في «الحكم الرشيد» واقرار «دولة القانون» و«التنمية» التي ستخلق فرص عمل للشباب وبالتالي منع الإرهابيين من استقطاب الأجيال الجديدة لتجنيدهم.

هذا ملخص ما جاء في مقال كيري، والذي يثير من الأسئلة بأكثر ما يقدم من إجابات، فهو حديث نظري شديد العمومية ويتفق عليه الجميع أو على الأقل تردد وكُرر مئات المرات أما كيفية تحقيقه على أرض الواقع في ظل المشهد الراهن في المنطقة- وهو الجانب الأهم- فهذا ما لم يتعرض له المقال من قريب أو بعيد.

إذ لم يتطرق لظاهرة تفكك الدول بتداعياتها الخطيرة والتي أدت الى تلك الحالة غير المسبوقة من الفوضى والسيولة مما وفر ملاذا آمنا للتنظيمات الإرهابية وأعطاها جرأه للاستيلاء على أراضي وأقاليم والامتداد الجغرافي هنا وهناك، وهي ظاهرة بدأت بتجربتي أفغانستان والعراق قبل أن تتبعها دول أخرى امتدت من ليبيا إلى اليمن.

ومن ناحية أخرى، تجاهل المقال جنوح دول إقليمية في الآونة الأخيرة نحو مزيد من النفوذ والمكانة والدور تتصارع فيما بينها مستخدمة تلك الميليشيات في حروب بالوكالة لتحقيق أهدافها دون أن يوقفها أحد. وهو ما يجعل من الدول المفككة ساحة لهذا التنافس.

وفي هذا السياق، فإن الاستراتيجية الأميركية هي عنصر فاعل ورئيسي في مسار تلك الصراعات، فهي تقف في وجه البعض وتغض الطرف عن سلوكيات البعض الآخر وفق حسابات سياسية متغيرة، مثل حالة إيران الآن على سبيل المثال، التي أفسحت لها واشنطن (لاعتبارات تخص ملفها النووي) المجال لتنامي نفوذها في العراق وقبله في أفغانستان وحاليا في سوريا ونفس الشيء في اليمن، ناهيك عن استمرار نفوذها في لبنان من خلال حزب الله.

ونفس الشيء ينطبق على علاقاتها بالأطراف الأخرى.

فكيف سيتم إذن تسوية كل هذه الصراعات والأهم كيف سيكون عليه شكل الدول مستقبلا؟ وأين يقف حديث كيري عن الحكم الرشيد والتنمية من هذا الواقع؟ وأخيرا كيف يفسر الأفكار المتداولة في كثير من الدوائر الأميركية وآخرها ما عبر عنه أوباما في حديثه إلى الصحافي الشهير توماس فريدمان عن أن الحل في المنطقة - مشيراً إلى ليبيا وسوريا والعراق- يتجه نحو التقسيم.

إن المشهد أعقد كثيراً مما تعرض له مقال وزير الخارجية الأميركي والمصالح المتضاربة والصفقات السرية أو المعلنة تزيده تعقيداً. إنه تقريباً لم يقل شيئاً!.

 

Email