جدليات

ت + ت - الحجم الطبيعي

«من لم يحرّكه الرّبيع وأزهاره، والعود وأوتاره، فاسد المزاج ليس له علاج»، هذا ما قاله الإمام أبو حامد الغزالي، رحمه الله، واستند على ذلك بما خلق الله من أصوات ونغمات انتجتها الطبيعة وأدهشت البشر، فمن خرير الماء، وتغريد البلابل وزقزقة العصافير وصوت المطر وحفيف الشجر، أنصت الإنسان واستمتع، وحاكاها معبّراً عن أحاسيسه وشجونه بالصوت والأداة والآلة.

وكأنه بذلك يقول إن الموسيقى هي حالة من الوجد تفوق قدرتها في قدرتها على اللغة المحكية في التواصل والاتصال البشري.

فهي المعيار التفاعلي الحيوي لقياس وجد وشجن البشر وأحاسيسه فهي تحركنا مهما نأينا بنفسنا عنها لسبب أو آخر، خصوصاً إذا ارتبطت الموسيقى بنصوص تعبيرية ملحونة، تعبر عن حالات الفرح والحزن والغضب والفراق والعزلة والحنين والحسرة والأمل والندم والنصر والألم، وغيرها.

فهي ما يحرك الوجد في القلب، فيتأثر ويعتمل بها الجسد بإيقاعاته فيستجيب له بالحركة والتعبير الذي ينسجم مع الثقافة والمناسبة بحزنها وفرحها.

لن أدخل في جدلية أن الموسيقى مباحة أم لا، لأنني أولاً ليس من الفقهاء، وإن كنت شخصياً مع الذين يحبونها دون تعقيد، وثانياً لأنني لا أريد أن أقع في مصيدة النقاش المحتدم حول قضايا أراها عادية وبديهية تأخذ حجماً كبيراً في عالم يتقدم من خلال منصات نقاش لمواضيع تفتح آفاقاً علمية وابتكارية تنفع البشرية جمعاء.

في إحدى المناسبات ذات صباح بينما نحن جالسون في أحد المقاهي، وبينما يصدح المكان بالموسيقى، قال أحدهم، وقد انتفخت أوداجه، إن الموسيقى والغناء هي أحد أسباب إذهاب العقل العربي وتراجعه، ولن تقوم قائمة لهم دون نبذ الموسيقى بكل معازفها وطبولها ودفوفها ووترياتها، وأردفها قائلاً والإلكترونية، حتى لو كانت هذه الموسيقى بوعاء أو غطاء تراثي وثقافي.

لقد بدا على صديقنا دراية واضحة بأنواع الآلات الموسيقية التقليدية والإلكترونية ومخرجاتها، تلاه غضباً وحقداً على أي كان مبدعها ومبتكرها وحاملها وعازفها ومحاكيها وشاريها وبائعها ومستمعها والمتمايل على أنغامها.

وتجهم وجهه إلى درجة معها شعرت أنه سيذبح كل الطيور على الشجر، وأنه في بيته يحكم شبابيكه بالسيلكون كي لا يسمع عزف نفيخ الريح إن هب، ولا يفتح باب بيته إن أنّت مفاصله. وتوقف لبرهة، وأشار بثقة إلى النادل الآسيوي برأس اصبعه، وطلب منه أن يوقف الموسيقى بالعربية أشبه ما تكون بالفصحى، ولم يفهم الجرسون المغزى من طلبه، فقام بتغييرها ظاناً منه أن الموسيقى لا تعجبه.

لقد أبدى أخونا من التعنت والصلف والسذاجة والانغلاق ما جعله يتكلم دون توقف أو تردد متربعاً بثقة العالم الجهبذ على أريكته متكئاً على كوعه، وكأنه مولود من بطن الحقيقة المطلقة.

هممت أن أدلي بدلوي الصغير حول الموضوع، ولكنني ترددت لأن المنطق والمنطلق مختلفان ومتناقضان لدى كل منا، فهو لديه أوداجه المنتفخة، ووجهه المزرق غضباً، وصوته المرتفع، وثقته الزائفة، وإقصائه المسبق للآخر ورأيه، وكأني به يحكي رأيه لنفسه وأن من خالفه الرأي فهو غير موجود، أو على طريق العدم.

ساد الجمع وجوم وبدأت أعينهم تتقاطع بصمت واستغراب ودهشة، حول قدرة هذا الأخ أن يقدم تأويله وتفسيره بهذا الجمود والانغلاق، وتجرأ أحدنا قليلاً ليقول إنه ليس من حقه أن يوقف الموسيقى على جميع زبائن المقهى، وقبل أن يكمل رأيه المعارض، صاح أخينا بأوداجه، إن ما تقوله «زندقة وكفر»، لا يجوز لك ذلك. أصابتنا الصدمة من ردة الفعل المبالغ فيها والحكم السريع.

فسكت الجميع وبلعوا ألسنتهم، أما أنا فبلعت ريقي رعباً، وأنقذنا صديق آخر إذ نجح وغير الموضوع إلى كرة القدم وهو موضوع شيَق لا يخلو من المناكفة الخفيفة والدعابة والتحدي الودي بين الفرقاء مشجعي النوادي.

وتوقعنا أن نكسر هذا الرعب والتوتر بموضوع لا يختلف على شعبيته وانتشاره وأهميته الاجتماعية اثنان، وبالفعل بدا أخونا حديثه بكامل هدوئه حول كرة القدم ومهارته وتاريخه المحترف أيام المدرسة، وكيف كان متميزاً في الهجوم، وكيف أن أقرانه في المدرسة كانوا يهابونه، لأنه كسر عظام ليس خصومه فحسب بل أعضاء فريقه الذين لا يتجاوبون معه لدرجة انه عوقب غير مرة بمنعه من اللعب.

 وبفضول سألته: وهل فاز فريقك من دونك، أجاب مطأطئ الرأس: نعم لقد حازوا على كأس المدرسة، وأن بعضهم أصبحوا لاعبين محترفين في أندية بلدانهم، وأردف قائلاً: إن كرة القدم «حرام» لأن فيها ظهور العورة، ومرتع للتلهي الجماهيري بالطبل والمزمار، وفيها الكأس المتنافس عليه، وهو نوع من القمار. وبدا أخينا أكثر انتفاخاً، فَعَلا صوته وانتفخت ذات الأوداج وتكورت عيناه واحمرت وتلاقت حاجبية.

وفجأة في حالة من الصمت وانقطاع الأمل في الإقناع والإصلاح والتعديل، ساد الجمع الوجوم ثانية والإحساس أن حالة من التخلف والانفصام الفكري قد أصابت أخينا، فوصل الحديث إلى نهايته.

 

Email