حضارة تدمّر حضارة

ت + ت - الحجم الطبيعي

في أعقاب الغزو الأميركي للعراق في مارس 2003، (مؤيداً بقوات أخرى من أوروبا واليابان) سمعنا عن مختلف أنواع التدمير والتخريب، كان أشدها إيلاماً، ما فعلته هذه القوات الغازية ببعض من أثمن وأعز آثار الحضارة العربية والإسلامية في العراق، التي كانت تأويها المتاحف والمكتبات العامة والمدن التاريخية.

كان من الممكن النظر إلى هذه الأحداث من زوايا مختلفة: غزو دولة لدولة أخرى مستقبلة ذات سيادة بحجة ما يسمى «بالحرب الاستباقية» مما يمنعه القانون الدولي أو قتل أشخاص أبرياء لا علاقة لهم بجرائم صدام حسين، ويكرهونه أكثر مما يكرهه الأميركيون (الذين ظلوا على علاقة طيبة معه طالما كان يحارب الإيرانيين)، مما يجرح أي مشاعر إنسانية. ولكن هناك أيضا، بالإضافة إلى خرق القانون الدولي ومجافاة الإنسانية، قيام حضارة بتدمير حضارة أخرى.

إن تدمير آثار الحضارة العربية والإسلامية ليس طبعاً بالأمر السهل، فهو يحتاج إلى عمل دؤوب وممتد لفترة طويلة من الزمن، وفي عدد كبير من الدول العربية والإسلامية، ومتاحف أخرى كثيرة في دول غير إسلامية.

ولكن العراق من أهم البلاد التي يمكن أن يضعها عدو لهذه الحضارة هدفاً له. وها هو التدمير يبدأ هناك، وقد يرى البعض أن هذه النظرة إلى ما حدث، وما زال يحدث في العراق، مبالغة في التشاؤم. فلا يزال الكثيرون ينظرون إلى ما حدث على أنه من أحداث السياسة الدولية، في نزاع بين دولة وأخرى، أو أطماع دولة قوية في دولة ضعيفة، أو من منافسة بين أطماع عدة دول قوية تحاول كل منها أن تظفر ببعض الموارد الثمينة قبل أن تظفر بها الأخرى. وكل هذا موجود بالطبع، ولكن، ألا يوجد أيضا شيء أهم وأكثر خطورة، وهو تدمير حضارة لأخرى؟

إن إصدار حكم من هذا النوع على بعض الأحداث لا يأتي عادة إلا بعد مرور فترة طويلة على حدوثها.

إن فترة الألف سنة التي قضتها أوروبا، بين سقوط الإمبراطورية الرومانية وبين عصر النهضة التجارية والثقافية في القرن الخامس عشر، لم يقرر المؤرخون وصفها «بالعصور الوسطى»، بما يتضمنه هذا الوصف من «تشخيص» هذه الفترة بأنها فترة «مظلمة» جاءت بين حضارتين مزدهرتين، إلى بعد مئات من السنين من انقضاء تلك الفترة. هل يمكن لنا إذن أن نصدر الآن حكماً بالتشخيص الحقيقي لما يفعله الغرب بالحضارة العربية والإسلامية ولما يمض بعد أكثر من 12 عاماً على غزو العراق؟

نعم، من الصعب أن نصدر الآن حكماً نهائياً، ولكننا يجب أيضا ألا نمنع أنفسنا من أن نفكر فيما يحدث من هذه الزاوية (بالإضافة إلى الزوايا الأخرى). وتزداد ضرورة هذا النوع من التفكير بسبب ما ينطوي عليه هذا التشخيص من خطورة.

من المعروف أن العراق (الذي كان اليونانيون القدماء يسمونه بلاد ما بين النهرين) يضم كنوزاً من أثمن آثار الحضارات الإنسانية. ففيه قامت أو ازدهرت حضارات السومريين والعقاديين والبابليين والأشوريين والكلدانيين، والحضارتان الفارسية والإسلامية. وليس من المبالغة القول ان العراق شهد بداية التحضر الإنساني منذ أكثر من سبعة آلاف سنة، وشهد خلال ذلك بدايات الفكر الفلسفي والديني، وإتقان الكتابة، ونمو التجارة الدولية، وتحول الأفكار الجمالية والفنية إلى أشكال ملموسة...ألخ.

في 11و12 ابريل 2003، أي بعد شهر واحد من بداية الغزو الأميركي للعراق، بدأ نهب المتحف القومي في بغداد الذي يضم آثاراً من كل هذه الحضارات، والذي وصف بأنه واحد من أغنى مراكز الآثار في الشرق الأوسط. وبعد يومين (14 ابريل) امتد النهب إلى المكتبة القومية ومحفوظاتها، وإلى مكتبة المصاحف القرآنية التابعة لوزارة الأوقاف.

وفي الجنوب الأقصى من العراق، حيث تقع مدينة (أور) الشهيرة، مهد الحضارة السومرية، ويبلغ عمرها ستة آلاف سنة، ظلت الآثار في مأمن عن أيدي العابثين حتى شهر ابريل 2003، حين قررت القوات الأميركية بناء قاعدة جوية ضخمة على مساحة واسعة مجاورة لمدينة أور، وبجانبها أربعة معسكرات للجنود، مما قضى على أي فرصة للتنقيب عن الآثار في هذا المكان. ولكن القوات الأميركية اقامت أيضا في نفس المكان مطعمين لسندوتشات البورجر والبيتزا للترفيه عن الجنود وتعويضهم عن الإقامة في الصحراء، بتقديم الوجبات التي تجلب لهم رائحة لوطن.

هذا النهب والتدمير وصفه أستاذ الآثار القديمة والحفريات بجامعة بوسطن الأميركية (بول زمانسكي Raul Zimansky) بأنه «أكبر كارثة ثقافية في الخمسة قرون الأخيرة». وعلقت عليه اليانور روبسون ( Eleanor Robson) أستاذة تاريخ الرياضيات في جامعة أكسفورد بقولها: «إن عليك أن ترجع في التاريخ إلى غزو المغول لبغداد في سنة 1258 لكي تعثر في التاريخ على مثال للنهب يشبه هذا النهب الذي يحدث الآن».

ما هو يا ترى أنسب تشخيص لهذا الذي حدث ومازال يحدث في العراق (وربما في بلاد أخرى من بلاد الربيع العربي)؟ هل هو مجرد غزو دولة لأخرى، أو مجرد تصرفات جنونية من جانب جماعة تقوم بخدمة الدولة الغازية، أم أن الأنسب وصفه بأنه قيام حضارة بتدمير أخرى؟.

Email