ما وراء الاستعراض الإرهابي والسياسي في فرنسا؟!

هذا الاهتمام الكوني بخطورة العمليتين الإرهابيتين في باريس أخيرا، يبدو لدى كُثُر يفوق بكثير ردود الأفعال على أحداث برجي التجارة العالمي في نيويورك، ومترو لندن والسؤال الذي طرحه بعض الإعلاميين على الكاتب لماذا؟

كانت أحداث نيويورك، ذروة الخيال الإرهابي في تخطيطه وتنفيذه لأنه كان يشكل ضربة لإحدى أيقونات القوة العولمية للهندسة المعمارية الأمريكية والغربية،ولم تكن ردود الأفعال أياً كان رفضنا لها ولدلالاتها ومخاطرها على عالمنا، إلا أنها لم تصل إلى ما حدث في مجلة شارلي إبدو الفرنسية، ومطعم كوشير هايبر اليهودي المتخصص في تقديم الطعام وفق الشريعة اليهودية..

وذلك يعود في تقديرنا إلى عديد الأسباب وعلى رأسها ما يلي، أن حادثة شارلي إبدو بالغة الخطورة لأنها تمس أحد مقدسات العلمانية الفرنسية، وهو حرية الرأي والتعبير بجميع أشكالها ومجالاتها، والأخطر حرية الصحافة.

وزاد من خطورة الحادث ودوافعه أنه اختار هدفاً مقصوداً ويحقق أقصى مستويات الخوف والترويع والتوحش، في قلب مجلس تحرير الصحيفة، لكي يحقق ذروة الاهتمام الإعلامي والسياسي الغربي والكوني من حيث المتابعة والاهتمام لكي يحقق الفعل الإرهابي الهدف من ورائه..

ويشيع الخوف في أقصاه، وأن العمل الإرهابي والقائمين به رمى إلى تحقيق رسالة مفادها أن التنظيم قادر على الوصول إلى أهدافه بقطع النظر عن سياسة مواجهة الإرهاب لدى الدول الكبرى في عالمنا، وتشكل العملية الإرهابية وخطف بعض المواطنين الفرنسيين اليهود في مطعم كوشير هايبر، أحد الأهداف التي تحقق أقصى درجات الترويع والخوف وسط الجالية اليهودية. هذه الأسباب وغيرها تقف وراء هذا الترويع والخوف وأشباحه المختلفة في الفضاءات الأورو-غربية خصوصاً، وعولمية عموماً.

إلا أن كلا الحدثين كشف عن فجوات في التنسيقات الأمنية بين فرنسا والولايات المتحدة التي كان لديها بعض المعلومات المهمة عن الأخوين اللذين قاما بالعملية الإرهابية. من ناحية أخرى أن المعلومات الاستخبارية المتاحة لدى الأجهزة الفرنسية المختصة لم يتم التعامل معها بجدية..

بالإضافة إلى ظهور استرخاء أمني وواضح لا شبهة حوله. من ناحية أخرى تحول الحدثان الإرهابيان إلى موضوع للتوظيف من قبل الرئيس الفرنسي الذي هبطت نسب شعبيته إلى درجة لم يصل إليها رئيس سابق..

وذلك بالنظر إلى فشل سياساته الداخلية، ومن ثم وظف هذا الحادث الخطير أمنياً وبذكاء إلى موضوع للاستعراض السياسي، من خلال تأكيده على وحدة الأمة الفرنسية، وقيم الجمهورية. إلا أن خطورة الاستعراض السياسي تمثل في دعوة رئيس الوزراء الإسرائيلي المتطرف بنيامين نيتانياهو ليكون فى الصف الأول.

إن أخطر ما في عملية شارلي إبدو، وكوشير هايبر تتمثلان في حجم ونوعية الصدمة الإرهابية التي تطرح على المجتمع والطبقة السياسية الفرنسية الأسئلة العميقة التي تتواطأ بعض مكوناتها الحاكمة والمعارضة على نسيانها أو تهميشها، أو الصمت فى بعض الأحيان عن التعامل الجدي معها. إن سؤال لماذا ينخرط بعض الفرنسيين المسلمين – من أصول عربية وأفريقية.. الخ - في منظمات إرهابية؟

هذا هو السؤال الرئيس، ويبدو أن خبراء السلطة من المستشرقين لم تعد معرفتهم وتكوينهم قادرا على فهم المتغيرات والتحولات في الأجيال الثالثة والرابعة من الفرنسيين العرب والمسلمين، ولا تركيب بعض من هذه الأجيال في تكوين المنظمات السلفية الجهادية، وانضمام فرنسيين في إطار ثمانين جنسية في داعش أو في القاعدة.

ثمة عديد من الأسباب وراء ذلك، يأتي على رأسها ما يلي، أزمة في فلسفة وقيم وسياسة الاندماج الداخلي وفشلها لعديد من العقود دونما مراجعات عميقة لها. لأن حالة الفصام الاجتماعي والأنوميا الفردية والجماعية لدى هذه الأجيال الجديدة، وتهميشهم، واللامبالاة بهم هي أحد دوافع تحولهم إلى العنف والإرهاب..

وأزمة المعنى الوجودية لبعض أبناء الجيلين الثالث والرابع لاسيما في أعقاب انهيار السرديات والأنساق الأيديولوجية الكبرى، وأدى الشرط ما بعد الحديث إلى تشظيات وانشطارات تكوينية في تركيبة الهويات الجامعة، والهويات الأخرى، والتذري لم يعد قاصراً على الجوامع المشتركة، وإنما داخلها أيضاً ويتمدد إلى الهويات الأخرى داخل المجتمعات، بما فيها الهويات الدينية، والمذهبية والقومية.. الخ.

نهاية عصر البطولات الكبرى لصالح فضاء من المواهب الكثيرة في نطاق الثورة الرقمية، وما بعد الثورة الصناعية الثالثة، وذلك في نعومة وهدوء ودونما صخب في ظل تلاحق الاكتشافات والتطورات العلمية ومن ثم غياب نموذج البطل. من هنا يبدو الانخراط في المنظمات الإرهابية، يحمل معه نزعة الاستشهاد لدى المسلمين..

والبطولة إزاء مجتمع الاستعراض والاستهلاك المفرط من عناصر تبدو مهمشة ومقصية ومستبعدة من النظام الاجتماعي والسياسي. من هنا تبدو العمليات الإرهابية تحمل في دوافعها نزعة للمغامرة الكبرى، وشكلاً ملائماً للثأر من الإمبريالية العولمية.

 

الأكثر مشاركة