المثقف بين القمع والسيرك والاستعراض

ت + ت - الحجم الطبيعي

يُشكّل الانزواء النسبي لبعض المثقفين النقديين والمبدعين، أحد المخاطر الكبرى على التطور المعرفي والاجتماعي أساساً، بل إن تراجع دور بعضهم لصالح الظواهر الجديدة؛ تقديم البرامج المرئية والكتابة على الواقع الافتراضي.. يؤثر على نحو سلبي في مسارات وصيرورات التحول السياسي في مصر والإقليم العربي، في ظل اتساع وتمدد الفجوات بين مصر وإقليمها وعالمها، وخاصة مع تراكم هوة التخلف التاريخي بكل مكوناته وأبعاده، عن العالم المعولم ومجتمعاته ما بعد الحديثة.

حصار المثقفين ومحاولة حجب أدوارهم من قبل السلطات الانتقالية، والدينية، يشكل محاولة للعودة إلى معتقلات العقل وسجون الأفكار، في أقبية التسلطيتين السياسة والدينية، وفي ظل نمط من الغوغائيات الاجتماعية، وبعض الجيلية الصاخبة والسائدة في المجالين العام الواقعي والافتراضي. وآية هذا العقل الغوغائي تتجلى في بعض مظاهر ازدراء الكتابات القيمة واللغة المركبة، سليلة أرفع درجات التكوين والممارسة الكتابية.

ثمة ميل لا تخطئه العين البصيرة، إلى تشجيع نبذ المؤلفات الرصينة، أو ذات الحجم الكبير، بدعوى أن ثمة إزاحة تبتدئ من نمط الكتابة الرائجة البسيطة، والمنهجية بين العامية والفصحى الركيكة، ورواج بعض الروايات التي تغلب السرد الحكائي، والنزعة البوليسية، أو العودة إلى الكتابة المفرطة في سيولتها وأوصافها ومجازاتها، ومن ثم وضع الأبنية السردية لكتابات ما قبل محفوظ، وما بعده، تحت دعاوى التشويق والسلاسة وعدم التعقيد والبساطة.

يقول بعضهم إن اللغة الرقمية، فرضت نمطاً كتابياً جديداً يقوم على الإيجاز الشديد، والمباشرة، وبعض الرموز التعبيرية المرسومة، وهو ما أدى إلى تغير كبير في سوق الاستهلاك القرائي ونمط التلقي.

وهي ملاحظة جيدة، لكن ثمة فارقا بين تعبير الرسائل شديدة الإيجاز SMS على الهاتف المحمول أو غيره من أقنية الاتصال الرقمية، وبين الإيجاز والكثافة وعدم الترهل السردي في روايات وقصص بعضهم، كما في بعض رموز جيل التسعينيات؛ أحمد العايدي مثالاً في «أن تكون عباس العبد» وآخرين.. أن يحل نمط كتابي محل نمط آخر ويزيحه من سوق التلقي، هو جزء أقرب إلى الأمنيات منه إلى واقع الكتابة الذي يتسع ليشمل جميع أساليب السرد.

إن الأمر يتعدى الملاحظات السابقة، لأنه بات جزءاً من بعض اللغو الصحافي وبعض دور النشر، اللذين يروجان لما يسمى بظاهرة الكتب والروايات الأكثر مبيعاً، من خلال خداع القارئ غير المدرب كي يقبل منشوراتهم وتروجيهم لبعض الكتاب والأجيال دون بعضهم الآخر. هذا اللغو الصاخب يؤدي في بعض الأحيان إلى حجب الأعمال السردية الرفيعة، من حيث الأسلوب واللغة والبنية وجدة الموضوع أو الطرافة، أو النزعة الساخرة والتشظي واليومي والمشهدي.. إلى آخر المعايير والسمات التي تعطي لبعض الأعمال الفرادة أو بعضها.

بعض أشكال الرفض الجيلي، على أهميتها، يسوقها بعضهم بهدف الاستبعاد والحجب عن المشهد، بدعوى تراجع أهمية بعضهم، أو الخلط بين المواقف السياسية لبعض الكتاب وبين إنتاجهم الإبداعي، وبين الشخصي من مرويات ونميمة للنيل من أعمالهم. ولا شك أن هذه الأساليب النقدية التي تنتشر بين الحين والآخر في دوائر بعض المجموعات، تساعد على تشويه صور بعض الكتاب والمثقفين، وتنعكس سلباً على دورهم جميعاً، النابذ والمنبوذ، لا سيما أنها ظاهرة ممتدة في تاريخ الجماعات الثقافية في مصر، في ظل تشكل مجموعات من زمر الرفاق الأدبية والبحثية، أو ما يطلق عليه نظام الشلة. يمكنك أن تلاحظ تداخل السلطة السياسية والثقافية الرسمية، في نطاق شبكات الشلل والمصالح والأتباع، منذ أكثر من خمسين عاماً، من خلال أتباع وموالي السلطة السياسية الحاكمة، وبين بعض ناقديها، ومعارضيها.

شكل بعض الزمر الثقافية الموالية حجاباً حيناً ونقاباً حيناً آخر، في مواجهة المثقفين النقديين والساردين الموهوبين، ومن ثم أسهموا في التجريف الثقافي عموماً، وفي استبعاد بعض الموهوبين والأكفاء من فعاليات المؤسسة والسلطة الثقافية الرسمية، ومن ثم إقصاؤهم في ظل الحواجز التي فرضت في ظل التسلطية السياسية.

جزء من تراجع حضور ودور المثقفين الكبار منتجي الثقافة العالمة، بسبب ما يفرضه هذا النمط من الإنتاج عالي المستوى، من حواجز بينه وبين عموم المثقفين بالمعنى العام للكلمة، ومن ثم يبدون وكأنهم غير مفهومين وغير مؤثرين لدى رجال السياسة السوقية السائدة، والأحرى لدى صفوات سياسية غير مؤهلة التكوين والخبرات في عمومها، وهو ما ظهر خلال المراحل الانتقالية.

وجزء من الاستبعادات والإقصاءات للمثقفين النقديين سياسي، ومن داخل بعض الجماعات الثقافية، والجزء الآخر ذو صلة بالتحولات في النظم المعرفية، وسقوط بعض المنظورات الكبرى، والتشظي الذي يسم الشرط ما بعد الحديث وصيرورات ما بعد.

من ثم تقوضت رؤى ومقاربات، وبات الواقع الموضوعي الكوني وفي أقاليم العالم الفرعية وفي المجتمع، أكثر تعقيداً وسرعة، وهو ما ينطوي على تناقضات غير مألوفة. كل هذه المشاهد وعمليات التغير والتفكيكات التي تنطوي عليها، تثير الالتباس والغموض، بل والشكوك وعدم ثقة بعض المثقفين البارزين في مدى صلاحية أدواتهم لفهم ما يحدث أمامهم.

البعض الآخر لا يأبه كثيراً بالمتغيرات وكثافاتها وتلاحقها، ويستخدم مناهجه ومقارباته ورؤاه ونظرياته ومفاهيمه وأدواته، في الوصف والتحليل والتفسير والتركيب على نحو ما ألفه من خمسة أو أربعة أو ثلاثة عقود مضت، ومن ثم تبدو وكأنها إعادة عزف مشروخ لمعزوفة قديمة من الرؤى الخشبية، أو كما يقول أشقاؤنا السودانيون «كلام ساكت»، ومن ثم لا يبين.

فاقم من الجفوات بين المثقف ومجتمعه، اضطراب المراحل الانتقالية من غياب الأمن وضعف وازعات قانون الدولة وروادعه ونواهيه، والعنف باسم الشعار الديني والتكفير، والأخطر الفوضى والقيود المفروضة على الحريات العامة، ومحاولة استيلاد أصنام سياسية جديدة لا يجوز نقدها ومعها ما تطرحه من أفكار، تحت عديد التعلات والشعارات الجديدة، كالأمن والاستقرار وتنشيط الاقتصاد المريض بين الموت والحياة.

شعارات صحيحة في ظاهرها، إلا أن بعضهم يريدها حجاباً حاجزاً يحول دون إعمال حريات الرأي والفكر والتعبير والتظاهر السلمى، في حدود قانون معتدل ينظم ولا يصادر الحريات في أصولها ومنابتها.

إن هذا النمط من الشعارات ومضمراتها المعادية للحريات العامة والأساسية، يؤدي إلى فرض أصفاد ثقيلة على تداخل بعض المثقفين وإبداء رؤاهم وأفكارهم في تطوير مجتمعاتهم، ومواجهة جذور وعوامل وأسباب وظواهر التخلف الاجتماعي التاريخي، ومواجهة أصنام التابوهات السياسية والاجتماعية، والموروثات الوضعية التي تفرض للسيطرة على العقول والأرواح والوجدان، باسم الدين والمذهب أياً كان.

أحد القيود على دور المثقف وتصوره له، يتمثل في أغلال الحاجة الاقتصادية في مجتمعات يغشاها الاستهلاك الكثيف، ومن ثم الرغبة في الخروج من أصفاد العوز أو الوقوع في دوائره وأشباحه المحلقة، وبالتالي أصبحوا جزءاً من دوائر وقوائم أعمال مراكز البحث والأنشطة الثقافية ومنظماتها الأهلية الممولة. من هنا يخضع إنتاج الفكر والبحث وبعض الأعمال الفنية، لشروط ورغبات مؤسسات التمويل الدولية أو الإقليمية.

إنها أحد الضغوط الجديدة على تفكير وإنتاج ودور المثقف، لا سيما النقدي، وتؤدي إلى نتائج سلبية في إنتاج رؤى التغيير، وفي نمط النقد المراوغ، وفي أشكال وأقنعة التحايل في طرح رؤاه وأفكاره التغييرية، إزاء السائد والشائع والمحرمات الوضعية، من أجل هدم أبنية وأفكار شائخة، من ثم فتح الطرق ومسارات الرؤى نحو المستقبل..

Email