أسئلة المثقف الغائبة والغائمة

ت + ت - الحجم الطبيعي

في جميع أحوال المجتمعات الحديثة وما بعدها، مع الثورة الصناعية الأولى والثانية والثالثة وما بعدها، ما قبل العولمة وفي صيروراتها، يطرح سؤال المثقف والجماعات الثقافية، وحضورهم وغيابهم وأدوارهم في التغيير المعرفي والاجتماعي والسياسي؛ أين المثقف؟ ما دوره؟ ما تأثيره على مسارات التغير والتحول البنيوي للمجتمعات؟

في مجتمعات الجنوب، حيث أحزمة البؤس والاستبداد والتسلطية، يثار السؤال وبحدة، ويتناسى بعضهم أن المثقف النقدي محجوب عن أداء مهامه التاريخية. نعم، الوصف صحيح بلا مبالغة، لأن المهمة الموصوفة بهذا النعت ذي الإيقاعات الفخمة، يرتبط بالمثقف النقدي الذي غالباً ما يكون رهين أحد المحبسين؛ السجن، أو الحجب عن الحضور الفاعل في الحياة العامة المأسورة.

أسئلة حاضرة في قلب الجدل العام في عديد العصور، وتزداد كثافته مشوبة بالألم في مراحل الفوضى والاضطراب، حيث تغيم الرؤى، ويتصدر مشاهد السياسة والتفاعلات الاجتماعية العنف المادي الطليق من أي رادع، أو العنف ذو الأقنعة الدينية، وخطابات التكفير في غالب المجتمعات العربية والإسلامية. يبدو بعضهم مسكوناً بالخوف، ويرفع الصمت سلاحاً في مواجهة الترويع والخوف والقتل. أسئلة المثقف والكتابة والوظيفة والدور والتغيير حاضرة، ولكنها معلقة وتسعى لإجابات تبدو في أحيان غائبة، ونمطية وخشبية فقدت رواءها وحيويتها في أحيان أخرى، لأنها تستعار كآلية دفاعية ـ نفسية في مواجهة التشرنق في معتقلات العقل والروح الجريحة.

أسئلة المثقف النقدي، وأزماته التكوينية وأدواره المعتقلة، حاضرة في التاريخ المصري والعربي، منذ المرحلة شبه الليبرالية 23-1952، رغماً عن بعض الحيوية الفكرية والثقافية والسياسية والدينامية الاجتماعية لمجتمع شبه مفتوح على عالمه وإقليمه، ويسأل ذاته بين الحين والآخر.

تمددت الأسئلة وتراكمت في ظل التسلطية السياسية والدينية، وحصارها للمثقف وأدواره النقدية، وأسئلته الكينونية، ورؤاه النقدية التي تسائلُ الموروثات، وثقافة الثوابت القمعية الوضعية، التي صيغت وتشكلت للحيلولة دون الأسئلة الحقيقية، ولتكريس ثقافة الإجابات القديمة ووعظها وفتاويها، والتي لا علاقة لغالبها بالمقدس أو السنَّوي، وإنما آراء بشرية فقهية أو لاهوتية، أو أعراف وقيم تقليدية، أو مأثورات وحكم وأمثولات شائعة... الخ.

أسئلة المثقف الجريئة أو الحقيقية والأساسية، تثير الخوف والفزع والقلق والتوتر لثقافة الإجابات البسيطة والسهلة والمألوفة، والتي يحاول رجال السلطة القمعية ورجال الدين، استخدامها في منظومة القمع الرمزي، والهيمنة على روح المجتمع والعقل شبه الجمعي، إذا جاز التعبير وساغ. ومن ثم تسوغ الثقافة السياسية والدينية التي تكرس الانقياد والخنوع والقهر، كمتتاليات لمعزوفة الاستبداد باسم إيديولوجيا النظام ونخبته السياسية الحاكمة، أو سلطة رجال الدين على الحياة اليومية.

إن السلطات الأبوية ـ البطريركية الدينية والسياسية، مغرقة في نزعتها المحافظة إزاء الإنسان المصري والعربي، الذي أريد له أن يكون محض أداة يسهل تشكيلها وصياغتها وفق النسق الاستبدادي أو التسلطي، ومن ثم سلاسة عمليات الإخضاع والترويض والامتثالية.

من هنا كانت الأمية بجميع أنماطها القراءة والكتابة، وأمية المتعلمين، والأمية الثقافية والمهنية.. إلخ - تشكل الحاضنة الأساسية للتطويع وثقافة القطيع، والاستثناءات قليلة. والأخطر أن ثقافة الإجابات الجاهزة تهيمن على كل شيء، من أسئلة الوجود والعدم والمصير الإنساني، أو أسئلة السياسة وشرعية النظم والنخب الحاكمة، وسند السلطة وأسئلة الحياة اليومية، ومدى شرعية خطاب الثوابت الوضعية، والمحرمات (التابوهات) التي توظف دعما لقمع الفكر وشل الإرادة الإنسانية، وتكريس حتمية الجبرية في الحياة، في ظل نمط من التسلطيات السياسية والدينية، والجيلية، والذكورية السياسية والدينية، في التأويلات والتفسيرات الوضعية السائدة.

المثقف في الأسْر، وغالباً محجوب عن مساءلة ذاته ومجتمعه وعالمه ومواريثه المعرفية، ومقارباته للأمور والظواهر، بل مساءلة أسئلته وأسئلة مجتمعه وعصره، ومن ثم يبدو أسيراً لوضعية الحصارات العنيفة والناعمة ـ الرمزية، ومن ثم يبدو في اللحظة ما قبل وبعد الانتفاضات الثورية المجهَضة، مصابا بالدوار والتشوش واضطراب الرؤى، وبعض من مسايرة سلطة السائد، بل وفي بعض الأحيان يبدو تعبيراً عن حالة الاستكانة ورد الفعل إزاء السياسة السائدة للنظام، أو تابعاً لشعارات بعض قوى المعارضة الضعيفة.

قلة قليلة كانت ولا تزال متمردة وثائرة وخارجة عن مألوف الأسئلة البسيطة وردات الفعل شعبوية السمت والمشاعر الهائجة، والتي تفتقر إلى الرؤى والسياسات والبرامج وآليات العمل لتقويض التسلطية بجميع أشكالها وأنماطها وعوامل تشكلها، والتي لا تمتلك أسئلة دافعة للبحث عن إيجاد حلول ما لمشكلاتها البنيوية.

من مرحلة الاحتجاجات السياسية ما قبل 25 يناير 2011، وبعدها، لعب بعض المثقفين ـ وهم قلة قليلة ـ دوراً مهماً في طرح الأسئلة، ومواجهة التسلطيتين السياسية والدينية، والكشف عن جذورهما وعوامل تشكلهما في الأنساق الاجتماعية والثقافية والدينية المصرية والعربية. بعد 25 يناير 2011، كان بعضهم جزءاً من سياسة الشارع ـ الميدان، وكانوا في قلبه نهاراً وليلاً، واستمروا جزءاً من حيويته، وأيضاً شعاراته الجامحة، وسياسة الأمل كما سبق أن أطلقنا عليها.

كانوا في الميدان، لكنهم كانوا جزءاً من الجموع المتطلعة للتغيير السياسي للنظام، وغلب الأمل وجموح الخيال على الأحداث الهادرة بالشعارات، ولم يكن بعضهم مدركاً بالوعى والمعرفة النقدية حدود الانتفاضات ودورها، ولكن كان خدَرَ وتوَهان اللحظة الانتفاضية الثورية مسيطراً عليه، وبعضهم كان مشغوفاً بالمشاعر وهوى التغيير الثوري، إلى الحد الذي وقعوا خلاله أسرى توصيفات الثائرين/ المتمردين من أبناء الطبقة الوسطى/ الوسطى، والوسطى/ الصغيرة، وتوصيفاتهم وتقديراتهم المفارقة للواقع.

قلة قليلة جداً هي التي مهدت للحدث السياسي البارز، وشاركت، لكنها كانت على وعي ومعرفة بحدود العملية الثورية وأسئلتها، وشاركوا بالكتابة والخطاب الشفاهي التلفازي/ المرئي، لكنهم كانوا جزءاً من ظاهرة الصخب المرئي والافتراضي/ النتي، الذي تم توظيفه في ضوضاء المدارات المرئية/ الافتراضية المصرية والعربية والدولية.

ضاعت أصوات المثقفين النقديين البارزين، وتراجع بعضهم لصالح بعض الحركيين والنشطاء السياسيين، الذين حاول بعضهم أن يكون بديلاً عن المثقف وأهل الخبرة والمعرفة وعلماء الاجتماع.

كان صخب الناشط »وخبراء السلطة« ــ وغالبهم بلا خبرة - وحركيو الجماعات الإسلامية السياسية، هم موضوع توظيف الفضائيات، وأسهموا في حجب الأسئلة الجديدة، وتكريس الأسئلة القديمة، ومن ثم دعمت الفضائيات العربية والدولية أصوات الضوضاء واضطراب الآراء المرسلة وأهواءها، وساعدت على هيمنة الخطاب السياسي الديني العنيف، والذي تستر على ضعف الخبرات وغياب المعرفة وسطوة الأهداف والمصالح السياسية والاجتماعية، والولع بالسلطة والثروة في مجتمعات معسورة ومنهوبة الموارد، والأخطر ارتهان قرارات بلادهم لقوى إقليمية ودولية.

Email