الاقتصاد وقوانين الطبيعة

ت + ت - الحجم الطبيعي

ألقى العالم والأديب البريطاني سنوC.P. Snow محاضرة نشرت بعد ذلك عن »الثقافتين«، وذلك منذ أكثر من نصف قرن.

وأكد في تلك المحاضرة على خطورة الانفصال شبه الكامل بين أصحاب الثقافة العلمية من ناحية، وأصحاب الثقافة الإنسانية والأدبية من ناحية أخرى، وأن ما يفصل بينهما أشبه بشقة واسعة لا يسهل تجاوزها، وبحيث يكاد أبناء كل ثقافة يتحدثون بلغة لا يفهمها أبناء الثقافة الأخرى.

ومن أسف، أن هذا الانفصام بين الثقافتين هو أمر حديث نسبياً، فصفة العالم أو الفيلسوف ـ لم يكن هناك فرق بينهما ـ كانت خلال العصور القديمة وحتى عصر النهضة، وربما حتى نهاية القرن الثامن عشر، متطابقة تقريباً. فأنت عالم بقدر معرفتك بالقوانين الطبيعية المادية والبشرية، وبالتالي أنت فيلسوف أيضاً. فأرسطو وكذا أفلاطون، كانا يتحدثان في الفلسفة والسياسة والأخلاق، بنفس القدر الذي يتناولان فيه الحديث في أمور الطبيعة (الفيزياء) أو الرياضة، بل إن أفلاطون قد سطر على باب أكاديميته أن »من لا يعرف الهندسة فلا محل له عندنا«.

واستمر هذا النمط لما بعد عصر النهضة. فديكارت لا يشار إليه فقط من خلال أفكاره الفلسفية، بل لعل أهم إسهاماته وأكثرها رسوخاً هي في الهندسة التحليلية، والتي تسمى باسمه Cartesian Geometry.

كذلك، فإن الفيلسوف الألماني ليبنتز Leibnitz شارك نيوتن في اكتشاف التحليل الرياضي Analysis، ولاتزال تستخدم حتى الآن الرموز التي اقترحها ليبنتز للتعبير عن المعادلات الرياضية.

وقد تراجعت هذه التقاليد القديمة في وحدة المعرفة، لحساب الاتجاه المتزايد إلى مزيد من التخصص على حساب الثقافة العامة. ومن أوضح مظاهر هذا التطور ما ظهر من شبه انفصام بين أبناء الثقافة »العلمية« من جانب، وأبناء »الثقافة الإنسانية والأدبية« من جانب آخر.

بل أصبحت لغة التخاطب في كل من المجالين مختلفة، ففي الجانب العلمي أصبحت الرياضة ـ بكافة أشكالها ـ هي لغة الحديث العلمي، في حين ظلت اللغة الأدبية هي لغة الفكر في الثقافة الإنسانية والأدبية.

وفي محاضرته عن »الثقافتين«، أشار سنو إلى أنه يشك فيما إذا كان أصحاب »الثقافة الإنسانية والأدبية« على دراية بأهم القوانين العلمية التي تحكم الطبيعة، وأشار بوجه خاص إلى ما يسمى »القانون الثاني للديناميكية الحرارية« Second Law of Thermodynamics، الذي رأى فيه أحد أهم قوانين الطبيعة، ومن المفترض في رأيه أن يكون الكافة، فما بالك بالمثقفين، على علم بهذا القانون. فماذا عن هذا القانون؟

هناك تفسيرات متعددة لهذا القانون، وأحياناً يطلق على نفس الظاهرة »الإنتروبيا« Entropy.

وتدور هذه الأفكار حول قضية محورية، وهي أن »النظم« order والتي تتمتع بقدر من الملامح والخصائص المميزة لها عن الوسط العام وتخضع لشكل من أشكال الانضباط، تحتاج في نشأتها ولاستمرارها إلى بذل الجهد والطاقة، ودون ذلك تتجه للتحلل والتدهور. وقد اكتشف هذا القانون عالمان، على الأقل، هما الألماني بولتزمان Boltzmann والإنجليزي ماكسويل Maxwell منتصف القرن التاسع عشر، ويكاد يمثل هذا القانون جوهر الطبيعة.

ولا أدعي أن لي ثقافة علمية ممنهجة، فتكويني المهني هو في القانون والاقتصاد، وبالتالي فإن حديثي اليوم عن هذا الموضوع هو حديث هاوٍ غير متخصص. والسبب الأساسي الذي دفعني للكتابة حول هذا القانون، هو أنني رأيت فيه الأساس العلمي لعلم الاقتصاد.

ذلك أن علم الاقتصاد، الذي كثيراً ما وصف »بالعلم الكئيب« لأنه يذكرنا دائماً بضرورة الجهد والعمل، ليس مجرد موقف إيديولوجي من الاقتصاديين بقدر ما هو استجابة وخضوع لقوانين الطبيعة.

وإذا كان الاقتصادي مالتس ـ بشكل ما وغير مقصود ـ قد ألهم داروين فكرة »المنافسة من أجل البقاء«، فليس غريباً أن تكون »ثروة الأمم« لآدم سميث، ثم دعوات الاقتصاديين اللاحقين من ريكاردو وماركس وكينز، بأن ثروات الأمم إنما تتحقق بالإنتاج، أي بالعمل وبذل الجهد والطاقة، لم تكن بعيدة عن الصورة عند اكتشاف هذا القانون للديناميكا الحرارية.

وسأحاول أن أقدم فهمي لهذا القانون، فقد بدأت الفكرة ـ فيما يبدو ـ بتأكيد أن درجات الحرارة تتجه إلى التساوي، بحيث تنتقل الحرارة من الأعلى حرارة إلى الأدنى حتى تتساوى الحرارة فيما بينها. واستقر الاتفاق على أن الحرارة تسير في اتجاه واحد، من الأعلى درجة إلى الأدنى، وليس العكس.

وهكذا فالطبيعة وقوانينها لا تقبل التمايز بين درجات الحرارة، ويمكن تحقيق ذلك فقط ببذل جهد وطاقة للاحتفاظ بالتمايز في درجات الحرارة. ومعنى إلغاء التمايز هو أن يصبح كل شيء مثل كل شيء، بلا ملامح خاصة أو معالم مميزة. والقانون الثاني، بهذا المعنى، هو قانون إحصائي، بمعنى أنه يؤدي إلى نوع من التوزيع الإحصائي الغالب، وإلغاء كافة الفروق.

وبعد ذلك توسع تطبيق القانون ليشمل كل شيء، وليس فقط اختلاف درجات الحرارة. فما معنى ذلك؟ المعنى أنه إذا لم تبذل طاقة وجهد، فإن الطبيعة تتجه إلى إلغاء كل المعالم والملامح المميزة لأي »نظام«، بحيث يصبح كل شيء ككل شيء. وعندئذ تختفي المعالم وتزول الخصائص والمميزات، ونكون في حالة من »الفوضى«، فالكل سواء، وهذا ما يطلق عليه زيادة الإنتروبيا. وهكذا يمكن القول بأن هناك تناقضا وتعارضا بين مفهوم »النظام« Order ومفهوم الإنتروبيا Entropy.

ومن هنا يقال بأن »الطبيعة« تحابي »الفوضى«. »فالفوضى« هي انعدام »النظام«، و»النظام« هو الملامح والمميزات والمعالم التي تميز هذا »النظام« عن الوسط المحيط. فإذا بني منزل وسط الصحراء، فإن المنزل يصبح نوعاً من »النظام« بملامحه المميزة، والتي تفصل بينه وبين الصحراء الجرداء التي لا معالم لها. ومرور الزمن سيؤدي إلى تدهور البناء وربما اختفائه تماماً، في حين تظل الصحراء على ما هي فيه، فهي بلا معالم أو ملامح، ومن هنا لا تحتاج إلى حماية أو صيانة.

وهكذا فمفهوم »النظام« هو خروج على الطبيعة، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا ببذل الجهد والطاقة. وهكذا، فإن إقامة أي »نظام« تعني الخروج على قوى الطبيعة، مما يتطلب بذل الجهد والطاقة المادية والذهنية، لفرض هذا »النظام« على الطبيعة. ولكن المشكلة لا تنتهي ببناء »النظام«، ذلك أن استمراره يتطلب أيضاً بذل الجهد والطاقة لحمايته من التدهور والانحلال.

Email