عن الألم والأمل

ت + ت - الحجم الطبيعي

«ألم» و«أمل» لفظان يشتركان في نفس الحروف ـ ألف لام ميم ـ وإن بترتيب مختلف، ولكنهما يتناقضان تماماً في المعنى.

«فالألم» حديث عما يصيب النفس أو الجسم من تعب ومشقة، في حين أن حديث «الأمل» يعبر عن السعادة والتفاؤل بالمستقبل. وبذلك يبدو للوهلة الأولى أن ما يشير إليه اللفظ الأول يتناقض تماماً مع ما يعبر عنه اللفظ الثاني.

فهل هذا صحيح، وهل هذه هي كل الحقيقة؟

وتزداد حيرتنا عندما نقرأ في أول سورة البقرة: (ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) صدق الله العظيم.

لقد حار الفقهاء في تفسير هذه الحروف «ألف لام ميم».

ولست أدعي علماً أو تخصصاً في هذا المجال، وبالتالي فلست مؤهلاً لتفسير ما ورد في هذه الآية عن تلك الحروف، ولكنه لا يخفى على أحد أن حروف لفظي «الألم» و«الأمل» واحدة وإن اختلفت في ترتيبها.

فهل من صلة بين «الألم» و«الأمل»؟ هذا هو السؤال. وعندما يلقى مثل هذا التساؤل على اقتصادي ـ مثلي ـ فسوف يتبادر إلى ذهنه أن علم الاقتصاد كله يدور حول لفظين: «المنفعة» و«التكلفة». أ

ما «المنفعة» فهي كل ما نتطلع إليه من «أمل» نسعى إلى تحقيقه، وأما «التكلفة» فهي العبء أو «الألم» الذي نبذله في النفس أو المال من أجل تحقيق هذه «المنفعة».

وهكذا، فإننا لا نبتعد كثيراً عن الحقيقة عندما نقول إن علم الاقتصاد يتعامل أساساً مع «الأمل» و«الألم»، وكيف نحقق آمالنا بأقل الآلام. هذا هو علم الاقتصاد في عبارة موجزة.

ولكن كيف نربط الآلام بالآمال، لماذا لا تتحقق المنافع بدون تكلفة؟ يقول الاقتصاديون عادة، إنه «لا توجد وجبات مجانية»، فلا شيء بلا ثمن أو تكلفة.

ومن هنا قيل إن علم الاقتصاد هو «العلم الكئيب»، لأنه يذكرنا دائماً بأن لا شيء مجاني.

وهكذا فالظاهر للوهلة الأولى أن الحديث عن «الألم» و«الأمل» هو حديث عن أمور متناقضة، «فالألم» عبء ومشقة، أما «الأمل» فهو مصدر للفرح والسعادة.

ولكن هل نكتفي بهذه الملاحظة العابرة أم أن الأمر يستحق أن ننظر أيضاً إلى ما وراء الظاهر؟ ألا يوجد بين «الألم» و«الأمل» سوى هذا التناقض في المشاعر التي يولدها كل منهما، أم أن العلاقة بين الأمرين أعمق وأوثق، وأنهما رغم ما قد يبدو بينهما من تناقض، هما ـ في نهاية الأمر ـ متكاملان، لا غنى لأحدهما عن الآخر، فهما يرتبطان برابطة جدلية.

فدون «أمل» لا صبر ولا قدرة لأحد على تحمل «الألم»، وفي المقابل فإن «الآمال» لا تتحقق بمجرد التمني، بل لا بد من الجهد وتحمل الألم في سبيل تحقيق هذه «الآمال».

وهكذا يمكن أن نقول، بقدر من التجاوز، إن الأمرين يرتبطان بنوع من علاقة السببية. «فبالأمل» تهون علينا المصاعب والآلام، والتي لا نتحملها بلا طائل، وإنما نقبلها لأنها تمكننا من تحقيق «آمالنا».

فبالعمل الجاد وتحمل الآلام يمكن تحقيق الآمال إن لم يكن المعجزات، الأمر الذي يضفي على النجاح مذاقاً خاصاً، لأنه نجاح تحقق باستحقاق وبالتعب والكفاح. وهذه ملحمة البشرية في تاريخها الطويل ومعجزاتها أيضاً.

فالإنسان وحده ـ من دون الكائنات الأخرى ـ قادر على صنع الحضارة لأنه يعمل، أي يبذل الجهد والمشقة ـ ليس على نحو غريزي ـ كما في الكائنات الأخرى ـ وإنما لأنه يفكر ويستوعب البيئة المحيطة به، ويطور أساليب عمله في ضوء تراكم معرفته، وهو يبحث عن أفضل الأساليب وأكثرها كفاءة لمزيد من السيطرة على هذه البيئة المحيطة به.

ولذلك لم يكن غريباً أن تكون مهمة الإنسان الأولى والأساسية هي صناعة الحضارة، وليس مجرد البقاء. فالحيوانات تعيش ولكنها لا تعمل، وبالتالي لا تصنع حضارة.

ولذلك لم يكن غريباً أن ظلت حياة الكائنات الأخرى من الحيوان والنبات على ما كانت عليه منذ مئات آلاف السنين، فهي تخضع لطبائع غريزية موروثة لا فكاك منها، بعكس الإنسان الذي يتمتع بقدرات ذهنية وعضلية تمكنه من تغيير وسائل معيشته مع تطور قدراته الفكرية وإمكانياته التكنولوجية.

وهكذا، فإن أهم ما يميز «العمل» بالنسبة للفرد، هو أنه اختيار إرادي وليس رد فعل غريزيا، وهو يتطور مع تطور قدراته العلمية والتكنولوجية. وبهذا يصبح «العمل» بهذا المعنى صفة بشرية يمتاز بها البشر بالمقارنة بسائر الكائنات.

ولذلك علينا أن نتساءل ما هو العمل بالضبط؟ «العمل» عند الاقتصاديين هو الجهد أو المشقة التي يتحملها الفرد من أجل تحقيق منفعة.

ولذلك، فإن «العمل» هو وسيلة لغاية، وهي تحقيق هذه المنفعة. والعمل بطبيعته جهد ومشقة وبالتالي مصدر للألم، ولكن ما يبرز القيام به هو ما يتحقق من عائد يستحق هذا الجهد وتلك المشقة.

فالعمل هو نوع من «الألم» الذي نتحمله من أجل تحقيق «أمل» في زيادة الإنتاج من السلع أو الخدمات.

وهكذا، يتضح أن «العمل» في الاقتصاد هو نوع من الألم والمشقة، ولكنه ليس «ألماً» بلا جدوى، بل بغرض تحقيق مصالح له وللمجتمع. ومن هنا فإن «الألم» ليس مجرد تكلفة تبذل بلا طائل، بل هي «تكلفة» مقابل عائد، وهو إنتاج السلع والخدمات التي تشبع حاجات البشر وترفع من مستوى حياتهم.

وإذا كان «العمل» وما يتطلبه من «ألم» هو ما يميز البشر عن غيرهم من الكائنات، فإن مكافأتها عظيمة، وهي أن البشر هم القادرون على صنع الحضارة.

والحضارة بطبيعتها مسيرة في سبيل التقدم، ولكن التقدم ليس له محطة وصول معروفة، بل إننا كلما خطونا خطوة أو خطوات على طريق التقدم، فإننا نكتشف أبعاداً جديدة كانت خافية علينا.

فالتقدم قد تكون له بداية، ولكن ليست له نهاية. ومن حقنا أن نسعد بكل نجاح لأنه ثمرة عرقنا وجهدنا وخيالنا، فنحن نتحمل الآلام باختيار وإرادة لأننا نعتقد أننا نستحق ما هو أفضل، ونحن قادرون على ذلك.

وكم تصبح حياة البشر مملة إذا كان كل شيء على ما يرام، وليس في الإمكان أبدع مما كان. وكم تصبح مأساة إذا قبلنا أوضاعنا المتردية باعتبارها قدراً محتوماً. فمن حقنا أن نأمل في مستقبل أفضل، ولكن من واجبنا أن نعمل من أجل ذلك. وعلينا أن نتذكر دائماً أن الطريق لتحقيق الآمال، هو بالقدرة على تحمل الآلام.

 

Email