تكلفة الاستفراد بغزة

يُعتبر قطاع غزة من أكثر ديمغرافيات العالم كثافةً سكانيةً وضيقاً جغرافياً. القطاع تبلغ مساحته حوالي 360 كيلومتراً مربعاً، ويقطنه أكثر من مليون ونصف المليون. غالبية السكان لاجئو مخيمات منذ نكبة فلسطين عام 1948.

البؤس المعيشي يضرب مستوى قياسياً، ويُقارن بمدينة «سويتو» الجنوب إفريقية في حقبة الفصل والحكم العنصريين. مستوى البطالة هو الأعلى على مستوى العالم، حيث فرص العمل ومستواه لا تلبي الحد الأدنى من المطلوب.

رغم أن الحصار يبدو إسرائيلياً، وعربياً نوعاً ما، إلا أن له طابعاً دولياً. هنالك توصيات وضغوط دولية، بالذات غربية، تبقي العدو والصديق والشقيق مشاركاً في الحصار اللا-إنساني. غالبية ضحايا الحصار من الأطفال والنساء والشيوخ، ومن الذين ليس لهم في السياسة والأمن ناقة ولا بعير.

سياسياً وإدارياً وأمنياً يخضع القطاع لسلطة تنظيم حماس، المصنف غربياً بالإرهابي. ذلك يقتضي توخي الحذر في التعامل معه، فلسطينياً وعربياً وإسلامياً ودولياً.

من أراد أن يعرف حجم قوته في السياسة الدولية والإقليمية وحتى المحلية، عليه أن يطرق باب قطاع غزة، سياسياً أو لمد يد العون والمساعدة الإنسانية. مطرقة السياسة الغربية الداهمة في انتظاره اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، وقد لا ينجو من تحريك الجبهة الداخلية ضده.

معظم الدول الراغبة في التدخل لصالح غزة، لديها من نقاط الضعف ما يجعلها تنكمش على نفسها، وتلغي التدخل لصالح قطاع غزة تحت سلطة حماس. الأمثلة على ذلك كثيرة من الكيانات والدول العربية والإسلامية، وحتى دول ما وراء البحار.

ظنت إسرائيل المسيطرة بالنيران على المنطقة أن غزة سهل الدخول إليها، وربما الخروج أيضا. الإمكانات العسكرية والاقتصادية والسياسية «الغزية» من الضعف بمكان، فليس لدى القطاع قوة جوية ولا برية ولا بحرية ولا استخبارية.

ليس له عمق جغرافي استراتيجي يمكنه من المناورة وحرية الكر والفر والالتفاف والدوران والمباغتة. توجد لدى القطاع قوة دفاعية متمركزة في خنادق وأنفاق، ثمة تشكل خطراً مميتاً! ضد قوة ضاربة نوعية كالتي يتمتع بها الجيش الإسرائيلي. الأخير اعتاد سرعة حسم المعركة لصالحه منذ إنشائه عام 1948.

خاض حروباً خاطفةً جعلت قياداته تعتقد أن قطاع غزة ليس أكثر من كعكة متواضعة على طاولة ممدودة. تورّط الجيش الإسرائيلي بالحرب ضد غزة، الأرض والإنسان والقوة العسكرية المتواضعة. بعد مرور أكثر من شهر على بدء الحملة الشرسة، لم يتمكن من النيل من صمود غزة ومقاومتها، ولو بالحد الأدنى.

دون هوادة أقدم على ضرب القوة المدنية في البيوت والمدارس والمستشفيات والمخيمات، لكنه فشل في مواجهة قوة متواضعة الإمكانات وجهاً لوجه. لم يتمكن من النيل من القوة الصاروخية وعناصر حركة حماس المزودين بأسلحة أغلبها فردي خفيف.

على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، فإن قهر الاحتلال الإسرائيلي في غزة لا يقل قسوة ومرارة عما واجهه في حروبه السابقة ضد شعوب المنطقة. لا يقل دوي الانتصار المعنوي الذي صنعه قطاع غزة، عن أمثاله على الجبهة اللبنانية عام 2006، وبعدها غزة عامي 2009 و2012.

مع ملاحظة فروق الطبيعة الديمغرافية والتسليح والدعم العربي والإقليمي؛ الأخيران شبه غائبين تماماً في العدوان على غزة. انقلب السحر على الساحر؛ فداحة الخسائر الإسرائيلية خاصة في الأفراد، لا نظير لها في المواجهات العربية -الإسرائيلية على مدى قرن تقريباً. التعاطف الدولي مع القضية الفلسطينية يتعاظم يوماً بعد يوم، مع سقوط أعداد كبيرة من الشهداء والجرحى؛ غالبيتهم العظمى من المدنيين العزل.

منذ البداية كانت غزة على موعد مع المجد، فالعدوان الأرعن مهما يكن مزوداً بآخر التقنيات القتالية يبقى خاسراً. الضمير الإنساني لم يمت، يقف مع الضعيف والمستضعف والمظلوم، ضد قوة غاشمة معربدة متجبرة. على الإسرائيليين أن يدفعوا ثمناً باهظاً، سياسياً وعسكرياً وإنسانياً حضارياً.

 

جامعة الإمارات

الأكثر مشاركة