جدل عقيم في مصر

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ فترة ليست بالقصيرة يحاول بعض الكتاب إثارة العديد من القضايا المثيرة للبلبلة المجتمعية في وقت يحتاج فيه الوطن لإعادة تماسكه، فالبعض يترك الأزمات ليتحدث عن إمكانية تجسيد شخوص الأنبياء والصحابة في الأفلام والمسلسلات، والبعض الآخر يحاول أن ينهش جسد مؤسسة الأزهر العريقة لينال منها. آخر هذه المحاولات ما قام به الصحافي إبراهيم عيسى من مناقشة عذاب القبر وإنكار وجوده.

وهو أمر بقدر ما أثار الكثير من الغضب في الكثير من الصحف، وعلى معظم مواقع الإنترنت، فإنه تم التعامل معه بتجاهل من قبل مؤسسة الأزهر من خلال وكيلها الدكتور عباس شومان، الذي قال »إن المشيخة لا تنشغل ولا تعترف بأحاديث من يخوضون في الشأن الديني وهم غير مؤهلين لذلك، وبالتالي يتدخّلون في ما لا يعنيهم، لأن المشيخة بعلمائها تحمل هموم الأمة ومستقبلها، وليس الخوض في أمور لا طائل من ورائها«. وهو رد رصين أعاد الأمور إلى نصابها.

وهناك مجموعة من التساؤلات التي تتبادر إلى الأذهان من خلال هذه المعارك الوهمية التي يتخيل من خلالها بعض المثقفين تحقيقهم نهضة جديدة واعد. هل تناول مثل هذه النوعية من القضايا مسألة محققة لنهضة مصر وخروجها من شرنقة تخلفها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي؟ ولماذا يصر هؤلاء الكتاب على تناول هذه القضايا والبدء بها كونها أولى محطات ما يُطلقون عليه التنوير؟

وهل حينما بدأ الطهطاوي- نموذج النهضة بالنسبة لهم- بدأه بالاصطدام مع الواقع المصري المحيط به، أم أنه بدأه من خلال القضايا الملحة المهيمنة على عقول المصريين، وبالتالي يمكن الانطلاق منها لتحقيق مراحل جديدة أخرى من النهضة، ولماذا لا يسأل هؤلاء المثقفون أنفسهم عن سبب تخلي الجماهير عنهم وارتباطهم بالمساجد والشيوخ، أياً كان تقييمنا لنوعية هؤلاء الشيوخ وما يقدمونه للجماهير؟ ولماذا يصر هؤلاء الكتاب عبر بعض كتاباتهم على الدخول في ما يصدم ضمير الجماهير بغض النظر أيضاً عن تقييمنا لهؤلاء الجماهير ومستوى وعيهم الفكري؟

الندوات والمؤتمرات وورش العمل فارغة وخاوية على عروشها لا يحضرها إلا عدد محدود جداً قياساً لجماهير الشيوخ ورجال الدين. والشاهد أيضاً أن هذه النخبة الضيقة جداً من الكتاب لم تنجح في صناعة أفكار جديدة تستطيع من خلالها أن تجسر الفجوة بينها وبين الجماهير، بما يخدم صناعة الفكر والثقافة في مصر.

والشاهد أيضاً أن هؤلاء الكتاب لم تكن لديهم القدرة على التواصل لا مع طلابهم ولا مع القلة من المتابعين لهم ولأفكارهم، وهى مسألة ترتبط بغياب الحوار الديمقراطي لديهم، وغياب قبولهم للأجيال الجديدة وإمكانية الحوار معها. والشاهد أيضاً أن أفكار هؤلاء الكتاب والقضايا التي يثيرونها تلقى صدى في حلقاتهم واجتماعاتهم الضيقة فقط، فهم يتيهون فخراً بما يقولونه ويرددونه لبعضهم البعض، بغض النظر عن نتائجه السلبية ومردوداته المجتمعية المخيفة.

إن كل هذه الأسباب مجتمعة بالتأكيد تقهر هؤلاء الكتاب وتخلق بينهم حالة من الإحباط الشديد تتفاوت درجات التعامل معها من كاتب لآخر. البعض يؤثر الانسحاب تماماً من الساحة، والبعض يكتب وينشر في صمت ويكرس البقية الباقية من عمره في الإنتاج الفكري بغض النظر عن حجم تأثيره ومستوى قبوله، والبعض لا يجد متنفساً له سوى اللهاث وراء تحقيق الذات من خلال منصب هنا أو هناك أو من خلال هيمنته على ندوة أو مناسبة لا يؤمها إلا عدد محدود من المريدين والأتباع، والبعض الآخر لا يجد حلاً سوى الانجراف إلى وسائل الإعلام المختلفة، حيث يتخلى رويداً رويداً عن مشاريعه الفكرية ليصبح نجماً إعلامياً يفاجئنا بأفكاره الصادمة التي تثير المشكلات والأزمات، متجاهلاً الكثير من القضايا المهمة مثل قضايا الفقر والعدل الاجتماعي وحقوق الإنسان وتطوير التعليم ونقص المياه وسد النهضة والتحرش الجنسي.

Email