الحياة بواسطة الأنابيب وازدواجية الإنسان

ت + ت - الحجم الطبيعي

الإنسان هذا الكائن الذي يمتاز بالوعي والفكر ويتعلق بالمبادئ والمُثُل، هو في الوقت نفسه فريسة القلق والتوتر أو الازدواج والتعارض، من حيث علاقته بالقيم التي يدافع عنها أو يضحي من أجلها، ومن بينها قيمة الحياة. ولذا نراه يؤسّس بنوكاً للدم والعيون والأعضاء لكي تُوهَب لمن يحتاج إليها، ولكنه لا ينفك عن خوض حروب وحشية تسمل فيها العيون وتهرق الدماء أو تقطع الرؤوس وتمزق الاعضاء، على ما تشهد حروبنا التي فاجأتنا وصدمتنا من حيث لا نحتسب، لسباتنا وغفلتنا، بل لنرجسيتنا التي تزين لنا أننا خير الخلق وأشرف الكائنات، وتلك هي المفارقة والفضيحة.

هذه المفارقة تتجلى، على مستوى آخر، في موقف الإنسان من الحيوانات. فالواحد منا يذبح حيواناً ليأكله أو ليبيع لحمه، كما يفعل الجزّار؛ وربما يقوم بالتلذذ بتعذيبه وقتله كما نشهد في لعبة مصارعة الثيران، التي هي عمل وحشي بامتياز، في حين أن الحيوان ذو نفس وروح، كونه يحس ويشعر ويتألم، وربما هو ذو فكر، على ما يقول اليوم علماء وفلاسفة يعيدون النظر في هذه الهوة الوجودية التي أقامها البشر بينهم وبين أسلافهم أو أبناء عمومتهم من الحيوانات العجماء.

وهكذا لا نتورع عن قتل الحيوان، فيما نحرص أشدّ الحرص على أن نحيا حياتنا حتى الرمق الأخير، بواسطة الأجهزة الاصطناعية!

أعرف أن أهل الرفق بالحيوان كثر، وقد حوكم شابٌ في بلدٍ أوروبي، ليس لأنه قتل هرّته، بل أيضا لأنه أمعن في تعذيبها قبل قتلها. وفي التراث الصوفي يسأل رب العالمين أحد العارفين عن الأسباب التي سيفوز من أجلها بجنّة النعيم، فيذكر العارف ما قام به من الطاعات والعبادات والمجاهدات، ولكن ربه يقول له: لا ليس من أجل ذلك، بل لأنك أنقذت هرّاً كاد يموت من البرد القارس. ومع ذلك لا يجدر بنا أن نخدع أنفسنا، فالثقة المفرطة بذات النفس مفخخة، كما تشهد التجارب على صعيد الفرد أو الجمع.

فالبشر لا يعاملون بعضهم بالرفق واللين والحسنى، على ما هي حال العلاقات بين الجماعات والطوائف، حيث تتحكم فيها مفردات الحسد والبغض أو الخوف والعداء. حتى الصوفي الذي يرقّ قلبه للحيوان، قد لا يتسع صدره لزميله أو ندّه الذي يتنافس معه على ملكية الحقيقة.

لنعترف بازدواجيتنا؛ نحن نذبح الحيوان أو نقتل عدونا، فيما نحرص أشدّ الحرص على أن نحيا حياتنا حتى الرمق الأخير، ولو لم يبقَ سوى كتلة من الشحم واللحم، أو عرق ينبض، كما هي حال مرضى »الكوما« الذين يدخلون في غيبوبة عن كل ما يجري حولهم.

بالطبع للطب إنجازاته الهائلة، سواء لجهة إطالة عمر الإنسان أو لقضائه على كثير من الامراض الوبائية، فضلاً عن نجاحه في معالجة امراض كانت مستعصية، كالذبحة القلبية والجلطة الدماغية وبعض الالتهابات السرطانية. ومع ذلك للطب تداعياته السلبية، كما هي حال الذين يبقون أحياء بفضل الأنابيب الاصطناعية. ومن هذه حالته لا يعيش كإنسان بعد أن انطفأت نفسه الانسانية بفقدان الوعي، ولا حتى كحيوان بعد أن فقد الاحساس والحركة، لكي يبقى بنفسه النباتية.

ومع ذلك فهو لا يعيش كما تعيش النبتة بصورة طبيعية، بل يعيش كنبتة مشوّهة، مريضة، ذاوية تنتظر انحلالها. لكن هناك من يصرّ على أن يبقى مرضى »الكوما« أحياء، بعد فقدانهم شروط الحياة، أي ما تستحق من أجله الحياة أن تعاش، من حسّ ووعي ومعرفة وقدرة وفن ومتعة.. مع أن الأليق والأرحم لهم ولذويهم أن يتركوا لمصيرهم المحتوم، كما هي حال المرضى الفقراء الذين لا يجدون من يتعهدهم وينفق الاموال الطائلة لقاء بقائهم في المستشفى شهوراً أو سنوات.

المثال الحي على ذلك هو قضية الشاب الفرنسي فانسان لامبير، الذي تعرض منذ ست سنوات لحادث أدخله في حالة »الموت السريري«، بعد أن فقد الوعي ولم يعد قادراً على التواصل بذويه وبمن حوله. وهذه الحالة التي يعتبرها الأطباء نهائية ولا رجوع عنها إلى حال أحسن أو اقل سوءاً، جعلت القضاء الفرنسي، بناء على قرار اللجنة الطبية، يتخذ قراراً بوقف العمليات الاصطناعية التي تمدّ جسم المريض بالغذاء والماء، إلا أن القضاء الاوروبي بوصفه سلطة عليا، تدخل لوقف تنفيذ قرار القضاء الفرنسي، نظراً للنزاع الناشب بين ذوي المريض، لأن قسماً منهم مع وقف الأجهزة الطبية، والقسم الآخر مُعارض لذلك باسم حق الحياة. وبذلك أبقي الرجل أسير جسده العاجز، الذي أصبح في حالة »موت سريري« يحيا حياته بلا معنى ومن غير وجه حق، لأن الموت حق طبيعي عندما يحين أوانه، أما العيش بصورة اصطناعية فهو أشبه بأعمال التعذيب.

وأنا أذكر عندما كانت زوجتي الراحلة فاتنة في أيامها الاخيرة، بعد أن فتك السرطان بجسدها، أن الطبيب المعالج قال: لم يبقَ أمامها سوى أيام معدودات وربما ساعات، ولا جدوى من متابعة المعالجة، بسحب ما يتجمّع في رئتيها من السوائل الخانقة.

فقلت له أمام ابنها وشقيقها، وفقاً للمبدأ القائل: الرأي الاخير للطبيب ولو أخطأ: أنت المسؤول، ثم سألته ماذا كنت أنت تفعل لو كانت ابنتك هي التي بين يديك! فأجاب: لكنت طلبت إيقاف العلاج الاصطناعي الذي لم يعد مجدياً، بل هو يضاعف الألم والعذاب.. وهكذا كان. ومن هنا فأنا أكرّر على مسامع ابنيّ ومن يحق له الاهتمام بي عندما يحين أمر رحيلي، أن وصيّتي هي ألا يلعبنّ أحد بجسدي، إذا عجز عن النبض والتنفس والاغتذاء والحركة بقواه الذاتية.

فأليق وأرحم ميتة هي التي تحدث بصورة مفاجئة، صاعقة، من غير عذاب أو شقاء.. لا للنفس ولا للغير.

Email