ضبابية الأفق السياسي في الحالة العربية

ت + ت - الحجم الطبيعي

يظل العرب في حالة خلاف حاد على جنس الملائكة، ومن أتى إلى الوجود أولاً البيضة أم الدجاجة. ينبشون في قبور الماضي باحثين عن مادة تاريخية أو أثرية مثيرة للجدل، يتلاهون بها وينقلونها عبر موجات الأثير لتصل أسماع كل أهل الأرض.

هذا في حين تأكل النار أقدامهم وسيقانهم وتأتي على جذوعهم، حتى ذقونهم ولحاهم وأعصابهم وأدمغتهم. تستعر نيران الحروب الأهلية الباردة والساخنة، عالية القدرة على التدمير الشامل. اخترع الإعلام الدولي، والإقليمي والمحلي التابعان، بِدعاً تتلاهى بها الكتل الجماهيرية الضخمة. الأمثلة على تلك البدع الشيطانية كثيرة؛ منها ما هو حقيقي، ثمة مبالغ في قدرتها على أخذ أدوار سياسية واجتماعية وعسكرية.

منها ما هو مثل طائر العنقاء لا وجود حقيقياً له، ومنها ما يشبه الجن والشياطين. لكن ذلك من شيمته الإبقاء على العقلية العربية منشغلة بالخير حيناً، وأحياناً أخرى بالشر والويل وإذكاء الفتن والحروب.

انقسمت الكتل الشعبية العربية إلى مجموعة من العينات المتضادة، تختلف مع بعضها على كل شيء، وتجعل «من الحبة قبة». لا مكان للتنازل أو التهاون من طرف حيال الطرف الآخر. مكان الحسم هو ميدان المعركة أو الشارع أو الساحة العامة أو حتى البيت الواحد. زُوّدت الكتل الشعبية العربية بأسلحة خفيفة ومتوسطة، قادرة على الإبقاء على نار الصراع والفتنة مشتعلة دون هوادة. تقود تلك الكتل مجموعات من الساسة ورجال الطوائف من النوع التكفيري الذي لا يرى للآخر مكاناً أفضل مما تحت التراب مقراً له.

الآفاق السياسية السلمية التعاونية للجماهير الضحية محدودة جداً، إن لم تكن معدومةً أصلاً. القوانين والأنظمة الداخلية باتت فاسدةً أو معطلةً أو شبه مشلولة. تُرك الميدان لأصحاب الأجندات المثيرة للجدل والشبهات، للتلاعب بمصير البلاد والشعوب، والخيرات والمقدرات والمستقبل الاستراتيجي للمنطقة. هؤلاء لا يرون أبعد من أنوفهم في التعامل مع أنفسهم والحياة والغير. إذا ما بقوا هكذا فلا يتوقع أحد أن تتحسن الأوضاع ولو بالحد الأدنى.

أقرب الأمثلة وأكثرها تأثيراً في النفس، ما يجري الآن في العراق وسوريا. الصراع بين الأحزاب والكتل وأهل العقائد، يهدد النسيج الاجتماعي المحلي وفي المنطقة والإقليم بشكل مصيري. على قدم وساق تُستدرج المنطقة إلى الأسوأ، عبر مجموعة متزايدة العدد والتأثير الجماهيري الحاشد، من السياسيين والإعلاميين وأصحاب الفتاوى. هؤلاء وجدوا في غياب الأفق السياسي السلمي في المنطقة، فرصة لمواصلة العمل المشين تجاه نشر الفوضى والعنف والحروب الشاملة المدمرة.

التدخل الخارجي المكلف بات مطلوباً أكثر من أي وقت مضى، وعلى لسان كل الخصوم السياسيين والعقائديين. أكثر أنواع التدخل الخارجي طلباً هو التدخل الغربي، الأميركي بشكل خاص. يعرف الأميركيون أهل المنطقة وتاريخها وثقافتها وطموحات أهلها. لديهم القدرة العسكرية والسياسية على التدخل.

بعد احتلاله عدة سنوات، ترك الأميركيون العراق دون أفق سياسي توافقي راسخ يتبعه أهل العراق. بات هناك فراغ سياسي وأمني، يسده أصحاب الأجندات الشخصية بالكراهية والانتقام وأخذ الأمور على عاتق كل منهم. حقيقة واقعة، فالأمور لا تحتاج إلى الجدل الواسع المتسم بالتعقيد والمبالغة والتهويل، للوصول إلى حل يرضي الجميع. على الجميع أن يوقن أن الخلافات السائدة ليست أكثر سطحيةً وجدليةً من الخلاف على جنس الملائكة، أو الدجاجة أو البيضة أولاً. الخلاف ينحسر أكثر في الشخصيات التي تمثل الشعب!

هي نفسها وعينها، تختلف فقط في سبيل دحض الطرف الآخر بهدف التخلص منه وإحلال نفسها محله. على الكتل الشعبية أن تتخلى عن الانسياق الأعمى وراء تلك الشخصيات التي تمتهن المبالغة والتهويل والتضليل والكذب، وإصدار الفتاوى الشيطانية المتكررة. الكتل السياسية والشعبية قادرة على الجلوس مع نفسها وقادتها، للوصول إلى أنجع الحلول وأفضلها. لكن كيف يتم ذلك دون نزع الأسلحة الفتاكة لتلك الفئات والمجموعات، والكتل الكبيرة والصغيرة؟!

Email