آليات العجز وآفاق القدرة

ت + ت - الحجم الطبيعي

 أذهب إلى السويد فأجدني أنتقل، فجأةً، من عالم إلى عالم آخر. أقصد من عالم الضجيج والدجل والصخب والاغتصاب والعنف والقتل، إلى مجتمع تسود فيه ثقافة الهدوء والسكينة والسلم، واحترام القواعد والقيم التي تسير الحياة والتي هي ليست نهائية، بل قابلة للتعديل أو التغيير.

ولعلّ ما يقف وراء هذا الرقي الحضاري والمدني، أن السويد كانت في طليعة البلدان التي تحرّرت من الفكر الماضوي، سواء بشكله الديني القديم أو الإيديولوجي الحديث، إذ هو جرثومة الفساد وآلة الاستبداد. ومع أن هذا البلد الذي ينتمي إلى المجموعة الإسكندنافية، لا يعد أكثر من عشرة ملايين نسمة، فإنه يقف في صف الدول المنتجة والغنية على غير صعيد.

فعلى المستوى الثقافي، تحضر السويد عالمياً من خلال كتّابها وفنانيها، كما تحضر عبر الجائزة الأكبر والأهم عالميا، جائزة نوبل التي تمنح لأبرز مؤلف في مجالات الأدب والطب والفيزياء والكيمياء والاقتصاد، فضلاً عن جائزة السلام التي تمنح لمن يخدم فكرة السلم بين الشعوب، من الساسة والناشطين المدافعين عن الحريات والحقوق. وعلى المستوى السياسي تعد السويد من الدول النموذجية في ديمقراطيتها.

ولا أعني صندوقة الاقتراع الموسمية، بل ثقافة الديمقراطية بما تعنيه من احترام قيم الشراكة والعدالة والمساواة وحرية الفرد. والحرية لا تعني هنا النرجسية، ولا أن يفعل المرء ما يشاء، وإنما هي بناء الفرد قدرته، عبر ممارسة حريته، كمواطن منتج أو مبدع ومشارك في بناء مجتمعه.

من هنا فإن نسبة الضرائب في السويد هي الأعلى، تماماً كما أن منسوب الحرية الفردية هو الأعلى، وبذلك يتحقق نوع من التوازن بين حرية الفرد ومصلحة العموم. أما على المستوى الأمني فلا سبيل إلى المقارنة، فأنت عندما تتجوّل في مدينة «لوند»، نادراً ما ترى شرطياً أو رجل أمن.

وهذا الأمن المثالي، بمثابة معجزة بالنسبة لغير بلد عربي تسوده الفوضى وتعبث بأمنه التنظيمات الحزبية والميليشيات المسلحة من كل صنف ونوع. وعلى المستوى الاقتصادي تعد السويد دولة متقدمة صناعياً، بما تنتجه من المعدات والماكينات والأدوات التي تستخدمها في تطوير اقتصادها وتلبية حاجاتها التنموية.

أو التي تقوم بتصديرها إلى الخارج. وأنا عندما أنتقل من مكان إلى آخر، بواسطة القطار، أدهش لما تمّ بناؤه من المحطات الضخمة والأنفاق المجهزة والجسور العائمة، بحيث أكاد أشعر بالإحباط عندما أقارن بيننا وبينهم.

ومع ذلك لا أحكم على اللبناني بالإعدام، فهو ناجح كفرد في ما يتعلّق بمشاريعه ومصالحه الخاصة، ولكنه فاشل في ما يخصّ الشأن العمومي. ويعود مصدر هذا الفشل إلى الأساليب العقيمة في الإدارة، وإلى نظام الحكم القائم على المحاصصة بين الكتل السياسية على حساب الخدمات العمومية. ولذا فإن اللبناني ينجح عندما يتسلّم وظائف عامة في دول تستخدم منظومات إدارية فعالة.

والأهم من ذلك أن فكرة المواطنة قد تدهورت في لبنان، بعد أن سيطرت الطوائف على المجال العام بأحزابها وميليشياتها وثقافاتها الخاصة. ولا مجال لنهوض مجتمع أو تقدمه، من دون سقف وطني جامع أو مبدأ عام محفز وموحد.

وحتى في بلد كفرنسا، ثمة شكوى اليوم من تراجع فكرة المواطن والدولة والمجتمع، بعد طغيان النزعة الفردية، وهذا أحد الأسباب التي تقف وراء الأزمة الحالية في فرنسا. وقد استفادت من هذه الوضعية الجبهة الوطنية اليمينية، بزعامة مارين لوبن، التي طرحت الشعار الوطني تحت يافطة عنصرية: فرنسا للفرنسيين.

والفكرة الأساسية التي دفعتني لكتابة هذه المقالة، هي المقارنة بين بلدان صغيرة الحجم كالسويد، تمكنت من بناء نفسها كبلد آمن مستقر متطور، وبين بلدان عربية كبيرة بحجمها، هائلة بمواردها، ومع ذلك فهي عاجزة عن تحقيق إنجازات يُعتدّ بها في مسيرة الحضارة القائمة. والعلّة في ذلك أنها لم تعثر على المفتاح الذي يفكك آليات العجز، لكي تفتح الأبواب والآفاق لإطلاق الطاقات الحيّة وتشغيل العقول المعطّلة..

واستثمار الموارد المهدورة أو المنهوبة، أو لخلق موارد جديدة إن كان ثمة نقص في الموارد الطبيعية. وهذه إحدى سمات عصرنا الراهن.. لقد تغيرت علاقتنا بالكائن، إذ باتت تتوقف على قدرتنا على الخلق والابتكار للجديد من العوالم والصعد والأنماط، التي تنفتح معها أرصدة أو سجلات جديدة للحقيقة.

هذا ما جرى من قبل في العصر الصناعي، حيث التقنيات نقلتنا من عالم إلى آخر. وهذا ما يحدث الآن في العصر الرقمي، حيث يتم اختراع صعد وأنماط جديدة للوجود، نتجاوز بها ما كان قائماً، بقدر ما نتحوّل عما نحن فيه. وهكذا، فقد غيّرت التقنية الرقمية علاقتنا بمفردات وجودنا، بقدر ما فتحت إمكانات هائلة، لا سابق لها، للتفكير والعمل على النحو المتسارع والفائق والعابر. والوجه الآخر لتغير علاقتنا بالحقيقة، هو تغير علاقتنا بالهوية. فإذا كانت الحقيقة ليست ما نبحث عنه، بل هي ما نقدر على خلقه وابتكاره، فإن الهوية ليست ما نرثه، بل ما نحسن إنجازه وأداءه..

لكي نصنع الحاضر ونهيّئ للمستقبل، ليس فقط على صعيد محلي أو وطني، بل على المستوى العالمي، بعد أن باتت المصالح والمصائر متشابكة. فالخصوصية الناجحة، كانت وطنية أو ثقافية، هي التي تمارس اليوم بصورة عابرة، بقدر ما يفكر أصحابها بالمصير المشترك للبشر وللحياة على سطح الكوكب.

وإذا كانت الثورات العربية قد فتحت أمام العرب وغير العرب، إمكانات لولادة عالم جديد أو نظام جديد، فإن القوى المضادة، من العرب وغير العرب، ما زالت تفكر وتعمل بمفردات ونماذج لا تنتج سوى العبودية والبربرية أو الفساد والفقر والإرهاب. ولكن كل من يستبدّ أو يفسد، بل كل من يدعم أنظمة الفساد والاستبداد، سوف ترتد ضده أعماله آجلاً أو عاجلاً.

Email