كسر الأيقونات والسيرك اللبناني

ت + ت - الحجم الطبيعي

 تتوالى الأحداث في لبنان والمنطقة، وكلها يستحق القراءة والتعليق، على سبيل الفهم والتدبّر، بالكشف عمّا يُمارسه أصحاب الدعوات والمشاريع، من أشكال الاحتقار والمصادرة، أو من فنون الخداع والشعوذة.

في لبنان حصل ما كان منتظراً، فبعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان في 25 مايو الماضي، لم يتمكن مجلس النواب من انتخاب رئيس جديد يخلفه، فعاد إلى منزله مخلّفاً وراءه الفراغ في سدّة الرئاسة، بعد أن تغلّبت لغة التعطيل على مصلحة الدولة ومنطق المواطنة. ولكن الفراغ الرئاسي ليس جديدا، فهو يحصل للمرة الثالثة. إنه وليد وضع نشأ وتشكل، منذ عقود، بعد أن فقد لبنان استقلاليته وبات في قبضة قوى تتغير أسماؤها ووجوهها وأهدافها..

ولكن ما لا يتغير هو اتخاذ لبنان رهينة لمشاريع واستراتيجيات تهدّد وحدته الوطنية الهشّة أصلاً، بقدر ما تضرب مجتمعه المدني ونموذجه الديمقراطي. قد تلين المواقف لأسباب تكتيكية أو لأغراض سياسية، كما حصل عند تأليف حكومة الرئيس تمام سلام الحالية، ولكن القناعات لم تتغير، خاصةً لدى فريق 8 آذار المسيطر على الأرض، بل ما زالت كما هي: إمّا أن تؤيده في شعاره القائل بأن الأولوية هي للمقاومة وسلاحها، وإلا لجأ إلى تخوينك وتهديدك.

في أي حال، هذه هي الثمار السيئة لمحاولات تعريب لبنان وأسلمته تحت شعار المقاومة والممانعة.. بالطبع المقصود العروبة الهدّامة لا الخلاّقة، والإسلام الإرهابي لا الحضاري.. من هنا، فإن الصورة الغالبة اليوم وسط السيرك اللبناني، يمثّلها أولئك السياسيون والمنظرون والإعلاميون، الذين يحرصون على أن يطلّوا عبر الشاشة، بسفسطتهم الكلامية ومهاراتهم الخطابية، ليقنعوا الناس بكل ما يعملون على انتهاكه ونقضه، في السر أو في العلن. ولعلّ هذه هي سمة العصر الذي يشهد على زيف أصحاب الدعوات والشعارات، إذ الأكثرون يصنعون النماذج التي يدعون محاربتها!

فالديمقراطي يقف مع أنظمة الطغيان، والعلماني يسير في ركاب الأنظمة الدينية، والجهادي المدافع عن دينه يحول الإسلام إلى بعبع إرهابي، والذي ينتظر إمامه ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً يملأ العالم ظلماً وإرهاباً، والذي يزعم بأنه يعمل لإرجاع الفلسطينيين إلى ديارهم ينخرط في حرب مدمرة تقتل وتهجّر ملايين السوريين من بلدهم، والذي قضى عمره يدافع عن حقوق الإنسان، لا يحسن التعامل مع خصوصيته وذاته إلا على نحو وحشي همجي.

لقد مرّت هذه السنة ذكرى تحرير جنوب لبنان عام 2000، بصورة باهتة، إذ اقتصر الحفل على أهل المقاومة ومناصريها. ولا غرابة في ذلك، فالشعار قد استهلك وأُفرغ من مضمونه، بعد أن تحوّل داخل لبنان إلى لغم يعمّق الانقسام والشرخ بين مكوناته وفئاته. أما في العالم العربي، وكما يجري في سوريا، فالوضع هو الأسوأ والأخطر، بعد أن ترجم شعار المقاومة إلى حرب أهلية لم يسبق لها مثيل، من حيث فظائعها ومآسيها ومفاعيلها التدميرية الهائلة.

وهكذا، فالشعار الذي كان أيقونة قبل أعوام، انكسر وتحول إلى حطام على مسرح الحروب الأهلية. تلك هي حصيلة التعامل مع المقاومة بوصفها عنوان الهوية الوطنية؛ أن ينقلب الشعار إلى نقيضه ويغدو مصدر خطر دائم على البلاد والعباد. ذلك أن المقاومة هي وسيلة مؤقتة، لا أيقونة مقدسة. وعندما تصبح قوة في المجتمع أكبر منه أو أقوى أو أولى، تتحول من أداة تحرير إلى نظام للتحكم والاستبداد.

عندما أعلن الكاردينال بشارة الراعي بطريرك الموارنة عن نيّته زيارة الأراضي المقدسة، جوبه بالاعتراض والتحذير من جانب مَن دأبوا على ممارسة الوصاية الفاشلة على القضية الفلسطينية. وهذا ما أتقنه محتكرو القضايا المقدسة منذ عقود: رفع سيف التشهير والتخوين ضد الكاتب العربي الذي يصافح كاتباً إسرائيلياً في ندوة ثقافية، أو يقبل بزيارة الأراضي المحتلة، أو يوافق على ترجمة أعماله إلى اللغة العبرية.

ولكن قد تمّ كسر الأيقونة على يد عبدتها، فنحن نجد اليوم أن من كان يحارب التطبيع الثقافي، يوافق على ترجمة كتبه إلى اللغة العِبرية. وفي ما يعنيني، فأنا منذ أثيرت، قبل سنوات، مسألة اللقاء بين كتّاب عرب وكتّاب إسرائيليين، كان رأيي أنه من الفاضح أن أخشى على هويتي وثقافتي من الحديث مع كاتب إسرائيلي في منتدى ثقافي، إذ بذلك أشهد على جهلي وقصوري.

إن الممكن بعد فشل الإيديولوجيات النضالية، ليس الخوف من التطبيع الثقافي، بل ممارسة الغزو الثقافي، سواء بترجمة كتب عربية إلى اللغة العبرية أو بالمشاركة في المنتديات الثقافية التي يشارك فيها إسرائيليون، أو بزيارة فلسطين المحتلة. فالثقافة هي مقتل إسرائيل، وكلنا يعلم أنه عندما تقرر إدراج قصائد للشاعر محمود درويش في الكتب المدرسية في إسرائيل، كان جواب رئيس وزرائها أن «كلمات درويش أشدّ خطراً على إسرائيل من الرصاصة القاتلة».

إن زيارة الكاردينال بشارة الراعي إلى إسرائيل، تشهد على أننا نطوي حقبة إيديولوجية بلغتها وشعاراتها وأساليبها. هذا ما يحدث الآن في إيران نفسها، فالرئيس حسن روحاني يفتح كوة في الجدار المسدود، بقدر ما يسدّد ضربة لشعار المقاومة بقوله إنهم «ينهبون ثروات البلاد بذريعة مقاومة القوى العظمى».

هذا هو مردود رفع المقاومة إلى مرتبة القداسة؛ تعطيل الانتخابات الرئاسية في لبنان للمشاركة في مسرحية الانتخابات الرئاسية في سوريا، وتحويل الذاكرة المذهبية إلى مصنع لإنتاج الحروب الأهلية العربية، فضلاً عن هدر ثروات الشعب الإيراني على مشاريع خارجية لن تعود عليه إلا فقراً وتخلفاً وعجزاً.. فهل ثمة من يتعظ ويعقل؟

 

Email