العرب وكرة القدم الأوروبية

ت + ت - الحجم الطبيعي

 لا يمكن لأي مراقب محايد إلا أن تستبد به الدهشة وهو يرى ذلك الانجذاب والارتباط غير المسبوق للمشاهدين العرب بكرة القدم العالمية، والأوروبية منها على وجه الخصوص. ففي كل بيت تجد الأطفال والمراهقين والشباب ليس لهم من حديث إلا عن كرة القدم الأوروبية؛ البعض منهم يتابع الدوري الإنجليزي، والبعض الآخر يتابع الدوري الإسباني، والآخرون يفضلون الدوري الألماني أو الإيطالي، بل إن الأمر يمتد هنا لكبار السن ممن تخطوا الخمسين أو الستين.

وإذا نظرنا حولنا فسنجد الكثير من أقاربنا أو زملائنا في العمل أو حتى رؤسائنا، متابعين جيدين للدوري الأوروبي، يتحدثون عن أسماء اللاعبين، يميزون بينهم، ويقيّمون المباريات التي يشاهدونها بحرفية عالية كما لو كانوا ينتمون لهذه الدول، وعلى دراية كبيرة بكل ما يحدث فيها. واللافت للنظر هنا، هو تلك المكانة الهائلة والمساحة الممتدة للدوري الإسباني في قلوب المشجعين العرب بالإجمال.

فما من بيت إلا وينقسم أفراده بين برشلونة وريال مدريد، أو بين الانتماء والإشادة بليونيل ميسي أو الارتماء في أحضان غريمه كرستيانو رونالدو. وتتعدد مظاهر هذا الانقسام بين ارتداء أردية اللاعبين والالتزام بأرقامهم، والاحتفاظ بالبوسترات الخاصة بهم، ومتابعة شؤون حياتهم.

ويزداد الأمر حدة بين الصغار الذين يتابعون كل صغيرة وكبيرة تتعلق بهؤلاء النجوم وأنماط حياتهم وسلوكياتهم المختلفة، ويتماهون معهم بشكل كبير، وبطريقة مَرَضية في الكثير من الأحيان. وإذا كنا في العالم العربي منقسمين كعادتنا بشكل مخيف بين الأندية الوطنية التي ننتمي إليها، ونشجعها ذلك التشجيع الذي يصل لمستويات عنيفة في بعض الأحيان، فإن الغريب في الأمر أن يصل تشجيعنا للدوري الأوروبي والأندية الخاصة به، إلى مثل هذا المستوى من الانقسام.

هناك أسباب عديدة وراء هذا الانجذاب والارتباط بكرة القدم الأوروبية، يأتي في صدارتها أننا إزاء ظاهرة كونية تمس العالم ككل. صحيح أن العرب يبالغون في انجذابهم وتعلقهم بالظاهرات الكونية مقارنة بشعوب الأرض الأخرى، لكننا إزاء ظاهرة كونية يرتبط فيها الرياضي بالربحي بشكل كبير. فالترويج لصناعة كرة القدم الأوروبية مسألة تتعدى جوانبها الرياضية، لتصب في جوانب الربح والخسارة والترويج الإعلامي الكوني، الذي تستفيد منه المحطات الرياضية المختلفة، ناهيك عن الشركات الرياضية العملاقة المتخصصة في صناعة الأحذية والفانيلات وغيرها من مستلزمات الرياضة الأخرى.

فنحن أمام ظاهرة كونية واسعة الانتشار والتأثير، تتعلق بتتجير الرياضة والعمل على الترويج لها لدى أكبر قطاع من البشر، بغض النظر عن المكان أو الزمان أو حتى الفهم الكروي الفعلي للواقع الأوروبي. نحن أمام صناعة بالمعنى الحرفي للكلمة، صناعة تحرص على تقديم منتج جيد للجمهور يضمن استمراره والتربح من ورائه.

إضافة إلى ذلك، يوجد جانب نفسي خاص بالكثير من المشاهدين العرب ممن يوجد لهم لاعبون في الأندية الأوروبية، فجماهير شمال إفريقيا، تتابع بلهفة أخبار لاعبيها المشاركين في الدوري الأوروبي، حيث يتحول التشجيع بوعي أو بلا وعى إلى تشجيع لابن البلد.

فكل ما يصب في مصلحة الفريق هو في النهاية إعلاء لابن بلدنا، وربما إعلاء لشأن بلدنا نفسه! فالمصريون، على سبيل المثال، زاد اهتمامهم بمتابعة مباريات تشلسي الإنجليزي، بعد انضمام محمد صلاح المصري له. وتساعد الصحف العربية من حيث لا تدري، في إذكاء روح التعصب للفرق الأوروبية، بالمبالغة في نقل أخبار اللاعبين ونقل كل صغيرة وكبيرة عنهم.

ورغم ذلك، فإن متابعة الدوري الأوروبي بالنسبة لقطاع كبير من المشاهدين العرب، تمثل حالة من المتعة البعيدة عن التعصب الذي نمارسه أثناء تشجيعنا لأنديتنا العربية. فالمشاكل الهائلة والصراعات المتواصلة المرتبطة بكرة القدم العربية، تجعل الكثير من المشاهدين ينفرون من متابعة أنديتهم الوطنية، ليفروا إلى الدوري الأوروبي الأكثر انضباطاً وإمتاعاً وهدوءاً، رغم صخب اللعب المرتبط به.

ورغم تصاعد الصراعات الكروية التي لا تفارقه. وفي هذا الإطار، فإننا نحن العرب نجد متعة في جلد أنفسنا ونسج المقارنات الهائلة بين كرة القدم الأوروبية ومثليتها العربية، سواء على مستوى أسعار اللاعبين.

أو مستوى المدربين، أو شكل الملاعب وتنسيقها، بل إن الأمر يصل حتى إلى مقارنة الجماهير وطريقة تشجيعهم وتنظيمهم وهدوئهم. يجد المشجع العربي وفرة هائلة من المقارنات التي تصب دائماً لصالح الدوري الأوروبي، وهو أمر يجعله رويداً رويداً يبتعد عما يحدث في الملاعب العربية من صخب وضجر ومشاحنات وأحوال لا تسر عدواً أو حبيباً.

الواقع أن كرة القدم في العالم العربي مسألة تحتاج لإعادة هيكلة تامة، على مستوى اللاعبين والمدربين والملاعب والترويج التجاري؛ وهي مسألة تحتاج إلى التعامل مع كرة القدم كصناعة، ترتبط بالترفيه من جانب وبالربح من جانب آخر.

Email