الليبرالية الفلسفية

ت + ت - الحجم الطبيعي

يسألني صاحبي عما إذا كنت أصنف نفسي في خانة الليبراليين.. وفي الجواب أقول: لا ينبغي أن ننخدع بالتصنيفات. فالليبرالية مفهوم مفتوح على إمكاناته الغنية وأبعاده المتعددة، بقدر ما هو منسوج من التباساته ومفارقاته، شأنه في ذلك شأن أي عنوان يرفع للعمل الحضاري؛ كالتقدم، والتنمية، والديمقراطية. وهذا ما يجعل الليبرالية مثاراً دائماً للكلام، لإعادة تعريفها وبنائها في ضوء الأزمات والتحديات، على سبيل التطوير والإثراء. في ضوء ذلك يمكن للكلام أن يجري على غير صعيد ومن غير وجه.. فالليبرالية الاقتصادية، قوامها فتح السوق أمام حرية التبادل بين الأفراد.

أما مبدأها فتلخصه مقولة إن الأسواق الحرة تنظم نفسها بما يعود بالنفع على الجميع، وفقاً للشعار المشهور: دعه يمرّ. ولكن الليبرالية تعدت طورها الكلاسيكي نحو نسخة جديدة، تتجاوز مطالبة الدولة بإطلاق حرية الأسواق، نحو شعار جديد: لا تدع الدولة تمر. ولذا فإن الليبراليين الجدد يدعون إلى تقليص دور الدولة في التدخل والرقابة والتنظيم؛ بل يذهبون أبعد من ذلك، فيرون أنه لا يوجد على أرض الواقع الحي، سوى أفراد وجماعات مختلفين في أذواقهم وميولهم ورغباتهم.

وبالطبع لليبرالية فوائدها، إذ لا نمو ولا ازدهار من دون حرية التبادل. ولكن لكل شيء وجهه الآخر، وهذا شأن الحرية الفالتة من كل قاعدة أو رعاية، حيث ترتد ضد أصحابها، بقدر ما تتحول إلى ليبرالية وحشية تعمق الهوة بين الأغنياء والفقراء، فتكون مصدر خلل واضطراب.

والليبرالية السياسية، قوامها تداول السلطة، وفقاً لآلية الاقتراع العام. ومن منافعها أنها تصون حرية التفكير والتعبير وترعى حق النقد والاعتراض، بقدر ما تتيح للأفراد والتجمعات استثمار طاقتهم في الابتكار والتجديد، وبذلك تحول دون قيام أنظمة سلطوية تصادر الحريات وتشل الطاقات، لكي تنتج مجتمعات فقيرة، متخلفة، عاجزة، غير فعالة. هل للديمقراطية مساوئها؟

هناك من يقول بأن اختيار الأكثرية في الانتخابات العامة، قد لا يكون دوماً صائباً أو سليماً. وكان أفلاطون قد أثار، في زمنه، مثل هذا الاعتراض، إذ كان يصف الأكثرية بالجهل، سيما عندما تتحول إلى قطيع بشري أو إلى كتلة عمياء تسيّرها الأحقاد والغرائز. ولكن ذلك لا يعني التخلي عن صندوق الاقتراع ومبدأ الانتخاب، بل يعني تطوير العمل الديمقراطي بابتكار مساحات وآليات جديدة لممارسة الحريات السياسية..

والليبرالية الثقافية قوامها الأخذ بمبدأ التعدد على مستوى الجماعات والطوائف والفئات، أما شعارها فهو الاعتراف بحقوق الأقليات والفئات المهمشة، والسعي لمقاومة أشكال التمييز والاضطهاد على أساس اللغة والعرق واللون، أو على أساس الدين والطائفة والجنس... ولهذه الليبرالية فوائدها في المجتمعات ذات التركيب المتعدد، ولكن لها محاذيرها. فحرية التعبير عن خصوصيات الطوائف والجماعات المختلفة، لا تعني التمترس وراء الحقوق الثقافية وتحويلها إلى قوقعة، وإنما تعني أن تمارس الهوية الثقافية الفرعية في ظل دولة لها قوانينها وأنظمتها الجامعة، أو على المستوى العالمي وفق المواثيق والعهود الجامعة للبشر. من غير ذلك تتحول المقاومة للممارسات العنصرية إلى إعادة إنتاجها بشكلها الأسوأ والأرهب، كما تعاني البشرية، اليوم، من حراس الهويات والخصوصيات.

الليبرالية الخلقية، هي الوجه الآخر لليبرالية الثقافية على المستوى الجماعي، وقوامها أن الأولوية هي للفرد على المجتمع. ولذا فشعارها هو أن من حق الفرد أن يمارس حريته في اختيار نمط عيشه، بالتحرر من عقلية التنميط والقولبة، فالفرد هو صانع حياته. هنا أيضاً ثمة محاذير، فالحرية الخلقية لا تعني أن يتحرر المرء من كل معيار، بإطلاق العنان لغرائزه وأهوائه، فذلك يفضي إلى الفحشاء، بقدر ما يحول المجتمع إلى ساحة صراع لا يرحم على الخيرات والسلطات.

أخلص من ذلك إلى أن هذه الصعد المختلفة من الليبرالية ليس منفصلاً بعضها عن بعض، وإنما هي مرتبطة، لأن المرء هو كل لا يتجزأ بأبعاده المتداخلة وصعده الوجودية المتشابكة. والأصل في التحرّر، الاقتصادي أو السياسي أو الثقافي، هو فكري: أن يتعامل مع المرء نفسه كذات تفكر وتنظر بصورة حرة، مستقلة، بعيداً عن المصادرات والوصايات من أي نوع كان. فالحياة أغنى وأوسع من النظريات والعقائد، بطفراتها وتحولاتها التي تسفر دوماً عن الجديد والمثير، أو عن المفاجئ وغير المتوقع، مما يحملنا دوماً على إعادة النظر في ما هو سائد من القوالب والمناهج أو المفاهيم والمعايير.. وتلك هي الليبرالية الفلسفية.

Email