تحولات النقد الأدبي وأصناف الخطاب

ت + ت - الحجم الطبيعي

انقطعت عن زيارة القاهرة، بسبب ما شهدته ولا تزال تشهده من الأحداث العاصفة والتحولات الكبيرة، منذ زلزال ثورة يناير 2011. مع أنني أتابع بكل كياني ما يجري على أرض الكنانة، محاولا تقديم قراءاتي لما يحدث هناك وكأنني أعيش بين أهل مصر.

ثم تخليت مؤخرا عن حذري، وقررت المجيء إلى القاهرة للمشاركة في المؤتمر السادس، الذي عقدته "الجمعية المصرية للنقد الأدبي"، حول "تحليل الخطاب"، بدعوة كريمة وجّهها لي الناقد الكبير الدكتور صلاح فضل الذي كان رئيسا للمؤتمر.

وكانت مهمتي الأولى، وربما الوحيدة، أن أشارك في جلسة الافتتاح، لكي ألقي كلمة الضيوف العرب من المشاركين في المؤتمر، ومعظمهم من الجيل الجديد من المشتغلين في حقل النقد الأدبي.

وقد تحدثت في النهاية عن نفسي، وعما تعنيه لي مدينة القاهرة التي لعبت دور الريادة منذ منتصف القرن التاسع عشر، بقدر ما استقطبت كبار المثقفين العرب من المشرق والمغرب، ومنهم، بالأخص، اللبنانيون الذين أسهموا في الموجة الحضارية الأولى في مجالات الفكر والأدب والفن والصحافة.

كانت البداية في عصر النهضة والاستنارة بشقّيه؛ الإصلاحي، والتقدمي. ثم تلا ذلك العصر الليبرالي بمجتمعه الديمقراطي المدني، وأفكاره التحرّرية ومناهجه النقدية في تناول التراث وقراءة الفكر الديني، كما نجد بشكل خاص في كتاب "الشعر الجاهلي" لطه حسين، الذي هو رائد في النقد الأدبي، وربما في النقد الثقافي، وقبل اختراع المصطلح، ولو كان مجرد نقد للشعر لما تعرض لهجوم القوى المحافظة.

كذلك كان لمصر دور الريادة في عصر حركات التحرّر الوطني، بمنظوماتها الإيديولوجية وانقلاباتها العسكرية وأنظمتها الشمولية. بالطبع كانت الغلبة في هذه المرحلة للبعد السياسي والاستراتيجي على الأبعاد الأخرى، مما أدى إلى تراجع الفكر التنويري والليبرالي.

بعد هذا الصعود في الدور المصري، حصل انكفاء وركود، ولّد فراغاً ملأته دول وأحزاب وقوى وضعت العالم العربي بين فكّي الكماشة: العجز في الداخل، والاستهداف من الخارج.

ثمّ حصل الانفجار الكبير في غفلة منا، نحن المثقفين، الذين كنا ننتظر الفرصة أو المعجزة تأتينا من لدن الغيب، أي من اللامكان. لأنه لم يكن يرد في حساباتنا أن هناك قوى جديدة يمكن أن تتحرك، أو أن تخرج الشعوب العربية من سجونها الفكرية، فتنتفض وتتمرّد لكي تقلب الأوضاع وتغير قواعد اللعبة وعلاقات السلطة.

ولا شك أنه سيكون لذلك أثره في الفكر والثقافة، كما في العقليات والمفاهيم أو في الخطابات والأساليب، لدى العاملين في القطاع الثقافي، ومن بينهم الأدباء ونقاد الأدب. فبعد الحدث الكبير، لا يجدي بل لا يمكن أن نفكر أو نكتب كما كنا نفعل قبله، إذ يترك أثره في أنماط التفكير والتخيل، وفي أشكال الحساسية وأساليب التعبير.

والمهم أن ما سقط من الأفكار والنماذج والصور، ليس مرده إلى مكر التاريخ ولا إلى مكر الشيطان أو الأعداء أو الاستعمار.

نحن ضحايا أفكارنا المعيقة والمستهلكة أو العقيمة والمدمرة، كما يتجلى ذلك لدى أصحاب المشاريع والدعوات، الذين يتصرفون بوصفهم ملاك الحقيقة والقضايا المتعلقة بالأوطان والأديان والإنسان. هذا ما تشهد عليه خطاباتهم، على غير مستوى:

الخطاب السياسي، حيث الحاكم الذي يتعامل مع بلده بوصفه ملكه يتصرف فيه كما يشاء.

الخطاب الإيديولوجي، حيث المرشدون ورجال الدين يتعاملون مع الدين بتسخير الأسماء والرموز لاهوائهم ومطامعهم وأحقادهم ونزواتهم.

الخطاب الثقافي، حيث النخب تحتكر قيم الحقيقة والعدالة والحرية، فيكون المآل ترجمة الشعارات بأضدادها.

الخطاب التاريخي، كما يتجسد في مقولات المكر والبوابة والمنصة.

إن التاريخ ليس في المتناول، وإنما هو مجرّد كلمة، وكلّ واحد يؤوله بحسب فهمه وتجربته ومواقعه ومصالحه ورهاناته. ولذا فالكلام على صناعة التاريخ، أو على انبعاثه، كما يبشرنا بل ينذرنا الفيلسوف آلان باديو، لا معنى له.. إنه من قبيل التهويم.

فما يُبنى ويصنع هو الحاضر الماثل، أما الماضي، بوثائقه وسجلاته وتراثاته وعاداته وسائر معطياته، فإنه يشكّل جزءاً من بنية الواقع الراهن، أي هو مجرّد إمكانات ومعطيات نشتغل عليها ونقوم بتحويلها بصورة خلاّقة، لكي نعيد البناء من جديد.

وإذا كانت الشعوب العربية قد خرجت إلى الساحات والميادين، فلكي تتحرر من الأوهام والأضاليل التي دفعت ثمنها غالياً.

لقد خرجت الشعوب لكي تخلق شروطاً جديدة لحياتها، على النحو الذي يمكّنها من بناء حاضرها وصنع مستقبلها، وتشارك في صناعة الحضارة وسجل جديد للحقائق والوقائع يصبح مادة لإعادة البناء والتركيب بلغة الخلق والتحويل. فعالم الإنسان هو ما يقدر على خلقه وفتحه، أو يحسن إنجازه وأداءه من اللغات والخطابات، أو الفضاءات والمساحات، أو الأبنية والمؤسسات.

 

Email