عالم عربي «جديم»!

ت + ت - الحجم الطبيعي

غالباً، وبعد أية أحداث تعتمل في عالمنا العربي، يبادر البعض بالحديث عن أننا نواجه عالماً عربياً جديداً. وفي كل مرحلة تاريخية معينة، تخرج لنا ماكينات الإنتاج الفكري محملة بالعديد من الصياغات الجديدة لهذا العالم الجديد.

وكأننا أمام بنى فكرية جديدة حقيقية وفاعلة، أمام مستجدات لم نعهدها من قبل، وتشبيكات وافدة أو منبثقة عن بنياتنا العربية القديمة. وتمر الأيام، ولا نجد جديدا ولا يحزنون.. البشر أنفسهم، والأفكار ذاتها، والتحزبات والعصبيات والهويات الدموية.

ورغم مساحات التغيير التي حملتها ثورات "الربيع العربي"، والآمال المرتبطة بها، فإن ما فات الكثيرين إدراكه، هو أن شعوبا مضغوطة لعقود طويلة، ونفسيات خاضعة، وجماعات مقهورة، لا يمكن أن تنتج تغييرا فعليا حقيقيا ينقلنا لعالم عربي جديد.

وهنا فإن التفسيرات العديدة التي يسوقها البعض، والتي تتلبس تحليلا ماركسيا طبقيا يضع المجتمعات العربية في تراكيب طبقية جامدة ومسبقة، لا يفيد في فهم سياقات الواقع العربي وتجليات ثوراته ومآلاتها المختلفة.

كما أن التحليلات الليبرالية السياسية التي يسوقها البعض، حينما يتحدث عن تغييرات فوقية باهتة، يتأبى الواقع العربي الجامد حتى على القبول بها والسير في معيتها. فهل نتجاهل التحليلات الطبقية بأشكالها الماركسية الفجة أو البنيوية المحدثة، كما نتجاهل التحليلات الليبرالية بأطرها السياسية والثقافية المختلفة، من أجل الارتماء في أطر نفسية ـ مجتمعية، تحاول فهم الشخصية العربية وبنية الشعوب العربية؟ وهل يصح هذا النوع من التحليلات مع تجاهل ما هو ملموس مجتمعيا من تشكيلات وجماعات وطوائف وإثنيات وهويات جامدة؟

الواقع أن التحليلات المختلفة للواقع العربي، وبشكل خاص في ضوء النتائج المخيبة للآمال لثورات الربيع العربي، وفي ضوء الاهتراء البالغ للمثقفين المرتبطين ببلدان هذه الثورات، وخضوعهم لصانع القرار السياسي، ورغبتهم المخيفة في الاحتماء بالاستقرار بديلا عن أثمان الحريات الغالية، يحتاج لمستويات جديدة من التحليل تتجاوز كافة الأطر التحليلية المتعارف عليها، أو حتى تعمل على الانطلاق منها وتجاوزها لآفاق تحليلية جديدة.

فعلى مستوى الواقع المصري، الذي يمثل نموذجا وسطا بين ثورات الربيع العربي، من حيث أنه لم يصل لمستوى الاستقرار النسبي التونسي المفتوح على كافة الاحتمالات، كما لم يصل لمستوى الفوضى الدموية في كل من ليبيا وسوريا، لم يعد كافيا الحديث عن المصالح الطبقية التي تعيد صياغة نفسها، عبر التحالفات بين قوى النظام المباركي وغيرها من القوى الأخرى بما فيها القوى الثورية.

بل ويمتد الشطط ببعض هذه التحليلات، إلى القول بإمكانية التحالف مع بعض شرائح "الإخوان" التي تقبل بالدخول في لعبة المصالح الاقتصادية، حتى ولو اختلفت أيديولوجيا مع القوى الأخرى. فالتحليل الاقتصادي هنا هو الذي يجمع بين كافة الأطراف، بغض النظر عن الولاءات السياسية والأيديولوجية، طالما ظلت هذه القوى ضمن الأطر المرسومة لها من قبل القوى الغربية وحلفائها في المنطقة.

كما لم يعد كافيا الحديث عن أهمية الديمقراطية، وعن دور المثقفين في العملية السياسية، إضافة لدور الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني.

فقد كشف واقع الحال في مصر أن هذه الثورات أوصلت الناس للكفر بالديمقراطية، كما كشفت البنية الحقيقية لمثقفين كنا نعتقد بليبراليتهم المتأصلة، لنكتشف أنهم لا يختلفون عن جمود وفاشية الهويات الدينية الجامدة.

بل إن الأمر يزداد سوءا حينما نجد منظمات حقوقية لم يبقَ لها من نشاط سوى اسمها، بحيث تتحول إلى مجرد بوق ناعق للتبريرات السياسية والأيديولوجية، دون أن تقدم فعلا مؤثرا يحمي حقوق الإنسان، أي إنسان.. ماذا يبقى لنا إذاً بعد ذلك من تحليلات، إذا ما تهاوت النظم التحليلية التي عايشناها لعقود طويلة من الزمن في مصر، وامتثلنا لها فكريا وأيديولوجيا؟

وإذا كانت هذه النظم غير كافية للملمة الواقع الناجم عن الثورة في مصر، فهل من نموذج جديد يمكن أن يقوم بهذا المستوى من التحليل للواقع المصري، الذي لم يستطع أن ينقطع مع قديمه ليقدم لنا جديدا يمكننا التعامل معه؟ الواقع أننا نحتاج لنموذج جديد، يضع في اعتباره أننا أمام واقع يجمع بين عناصر قديمة كثيرة وعناصر جديدة وافدة، واقع "جديم"! مع الدفع بالتحليلات النفسية المجتمعية لباطن الشخصية المصرية، والعوامل المحددة لها، والدافعة لها.

وهو نموذج يحتاج لجهود أكاديمية مخلصة، تجمع بين تخصصات عديدة ومتنوعة.

Email