حفاظ على المقدسات أم تخريب للمجتمعات؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد صدور كتابي «ملاك الله والأوطان»، نشرت عنه مقالة في جريدة «الحياة» بقلم الكاتب خالد غزال. وكان الشاعر والصحافي عبده وازن قد اتصل بي، ليقول إنه من الأنسب نشر المقالة بحذف العنوان الرئيس، والإبقاء على العنوان الفرعي: (الهشاشة/ المفارقة/ الفضيحة)، مخافة أن يثير العنوان الأول ردود فعل سلبية في الأوساط الدينية المحافظة.

ومع أنني قلت يومها للأستاذ عبده، أن يفعل ما يراه مناسباً، إلا أنني لم أكن مقتنعاً بنشر المقالة دون عنوان الكتاب.

أولاً، لأنني اخترت هذا العنوان لأقول إن أصحاب المشاريع الدينية والسياسية، ليسوا كما يقدمون أنفسهم بوصفهم حماة المقدسات والثوابت، المتعلقة بقضايا الإسلام والإيمان أو البلدان والأوطان، بل هم يحتكرونها ويتصرفون بوصفهم ملاكها، لكي يسخروها لأهوائهم ونزواتهم وأحقادهم، أو يتخذوا منها غطاء للتستر على مساوئهم وفضائحهم، كما تفاجئنا الجماعات والأحزاب والمنظمات التي تتصدر واجهة العمل الديني، لكي تفسد في الأرض وتسفك الدماء.

ثانياً، لأننا نبالغ في الخشية من شرطة العقائد عند تناول المسائل الدينية. فالأوضاع قد تغيرت عما كانت عليه قبل الثورات العربية، التي فتحت أبواباً أمام حريات التفكير والتعبير والنشر ما كانت متاحة من قبل.

وقد تعزّزت قناعتي بعد سقوط حكم «الإخوان» في مصر، بفضل الطوفان البشري الذي ملأ الساحات والميادين في 30 يونيو 2013.

هذا الحدث خلق حقائق ومعطيات جديدة، فمع الفشل الذريع والسريع في الحكم لأقدم وأقوى تيار إسلامي إيديولوجي، سقطت الفكرة الأصولية الرامية إلى بناء المجتمعات العربية وفقاً لفهمهم ونماذجهم ووسائلهم، وسقط معها مشروعهم السياسي لإقامة دولة دينية. كما سقط الرمز: المرشد، وسلطته وسلطة من تخرج من مدرسته من أفواج الدعاة ومن نماذج أمراء التكفير والجهاد.

ومن المفارقات أن الحداثيين كانوا في الستينيات من القرن المنصرم، يظنون أن الدين بات مرحلة بائدة، فإذا بهم بعد عقود يجدون رجال الدين أمامهم ينتظرونهم، لكي يقبضوا على السلطة بعقلية المهيمن والمنتقم الذي يستبعد كل من لا يفكر على شاكلته.

ولكن الأحزاب والقوى الإسلامية حيثما سيطرت أو حكمت، فشلت في إدارة الشؤون العامة والتصدي للمشكلات المزمنة، لأنهم لا يملكون الأفكار الحية والرؤى المستقبلية، أو النماذج المبتكرة والاستراتيجيات الفعالة للنهوض بالمجتمعات، إصلاحاً وتحديثاً.

فكان مآل سياساتهم إما هدر ثروات بلدانهم، أو تمزيق وحدتها، أو تخريب عمرانها. ولذا، دارت الدوائر عليهم بعد أن فشلوا، واستجمعوا مساوئ من سبقوهم. ولا يعود الأمر إلى مكر أعدائهم، بل لضحالتهم الثقافية وخوائهم الفكري، فضلاً عن استكبارهم العقائدي واستبدادهم السياسي.

ولا أنسى زيفهم الوجودي، سواء من حيث ادعائهم السير على نهج السلف، فيما هم لا يحسنون سوى انتهاك ما يدعون إليه، أو من حيث زعمهم المحافظة على الثوابت في مواجهة الغزو الثقافي الغربي، لأن ما لديهم من أفكار صالحة قد أخذوها عن الغرب لكي يسيئوا استثمارها، كما أساءوا استثمار التراث الديني.

وهكذا انهارت الفكرة وانهار المشروع، وتزعزعت السلطة. هذا السقوط المثلث ترجم بسقوط منطق الفتوى، وها هي البشائر، بعد النُذُر، تأتي من تونس، حيث تشكل دستور جديد لدولة مدنية تحترم المقدسات والرموز، بقدر ما تحترم حرية الاعتقاد والضمير.

بالطبع، ليست الأمور بهذه البساطة، فالحريات الناشئة والوليدة التي انفتحت أبوابها واتسعت هوامشها، تحتاج إلى المقاومة الدائمة، السلمية والمدنية، من أجل الحفاظ عليها وتعزيزها، بتوسيع مساحاتها وتفعيل آلياتها. وهي ككل عمل أو مكسب له ارتداداته، لا سيما من جانب القوى المحافظة والعقول المغلقة. ولكن لا عودة إلى الوراء، إلا على نحو كاريكاتوري أو إرهابي.

ولذا، فأنا أذهب إلى القول بأن أعمال القمع والكبت والمصادرة، في ما يخص الحقوق والحريات، هي ضد النهج المعتدل والوسطي الذي رسم قواعده شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب. وهي بالتأكيد ضد سياسة الدول العربية (السعودية، الإمارات)، التي تقف ضد المنظمات التكفيرية الإرهابية على اختلاف مسمياتها وهوياتها.

ومن الطبيعي والمنطقي أن يكون الأمر كذلك، بعد كل هذا الحجب والخداع والنفاق والزيف الذي مورس من جانب المنظمات السياسية والجهادية، التي اتخذت من الإسلام عنواناً لعملها، إذ الكل هاجسهم هو الوصول إلى السلطة والمحافظة عليها بأي ثمن، فكانت النتيجة ليس فقط طعن المقدسات والخروج على الثوابت، بل أن نحصد كل هذا العنف والقتل والدمار.

ولذلك، فإن ترك الحرية للجماعات التي تشتغل بمنطق الفتوى والحسبة والمصادرة، في ما يخص المنتجات الثقافية، لن يعطي سوى مردوده العكسي والسلبي في العالم العربي. وليست المسألة مسالة مقدسات يجري الدفاع عنها، بل مسألة عقليات ويقينيات وسلطات وتشبيحات، يحتكر أصحابها النطق باسم المقدسات والثوابت، ولكن من أجل تخريب المجتمعات العربية والعودة بها إلى الوراء.

 

Email