الإرهاب الفكري المسكوت عنه

المصطلحات المتداولة في الأوساط السياسية والإعلامية، لها جذور ومناشئ شتى زمنيا ومكانيا، بعضها قديم جدا وبعضها الآخر استحدث بسبب الحاجة التي فرضتها التعقيدات السياسية، وفي أحيان معينة فرضتها التوافقات والمصالح. ومع أن عصر العولمة الذي نعيشه قد عمل على تقريب المعاني والاستخدامات، وجعلها مشتركة إلى حد بعيد على المستوى العالمي، إلا أن بعض هذه المصطلحات لا يزال عصيا على الخضوع لذلك.

شهدت حقبة الحرب الباردة تناقضا حادا في المواقف، من حركات سياسية في دول العالم الثالث في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، حيث وضع الغرب بعضها في خانة الحركات "الإرهابية"، في حين وضعها الشرق في خانة الحركات "التحررية" المشروعة في تشكيلها وفي المهام التي تنفذها.

و"الإرهاب" من أكثر المصطلحات شيوعا في الوقت الحاضر، إذ لا يخلو خبر يومي عن حدث يقع في منطقة الشرق الأوسط، من ورود هذا المصطلح في معظم لغات العالم، على الرغم من أن بعض اللغط لا يزال قائما حول مدى الدقة في استخدام هذا المصطلح في وصف حدث معين، أو مدى الشرعية في إضفائه على فصيل سياسي معين.

فليس هناك اتفاق دولي محدد حول معنى الإرهاب وحول خصائص من يضطلع به، فالمسودة الجاهزة للتصديق حول ذلك التي أعدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2000، بقيت حبرا على ورق، وذلك لاعتبارات عديدة ليس لنا أن نخوض في تفاصيلها.

الاتفاق على معنى مصطلح الإرهاب يتطلب اتفاقا على معنى مصطلح الشرعية، لأن الإرهاب يعني في أبسط معانيه، طعنا للشرعية وتجاوزا على حدودها. والمعنى المحدد لأي من هذين المصطلحين في بلد معين، لا يمكن فصله عن التقاليد والثقافة والمعتقدات السائدة في هذا البلد. ورغم ذلك تبقى هناك ضرورة لاعتماد تعريف مشترك، ينبغي الأخذ به للتعامل مع الأحداث المقلقة وغير العادية، ومع الجهات التي تقف خلفها.

"الإرهاب" وفق ما هو متداول في الساحة الدولية، هو استخدام التهديد والعنف الممنهج لتحقيق بعض الأهداف. فهو وفق هذا التعريف، وسيلة إكراه لا تستبعد استخدام أية أداة، وقد اقتصر من الناحية العملية على وصف ما يجري من تفجيرات وتصفيات جسدية، تحصد الأرواح وتلحق الأضرار بالممتلكات وتهدد السلم المجتمعي وتنال من المدنيين وتعكر الأجواء العامة بهذا الوصف.

وبكل تأكيد ليس هناك خطأ ولا ضير في تقبل هذا التعريف، فهذه العمليات لا يختلف اثنان في أنها عمليات إرهابية، إذا كان ذلك بقرار قضائي يتخذ بأناة بعد دراسة لجميع ما له علاقة بهذه العمليات، إذ من السهل أن يستغل هذا التعريف للإرهاب، من أجل تحقيق أهداف سياسية أو تسقيط أفراد أو فصائل سياسية منافسة.

ولكن تعريف مصطلح "الإرهاب" قد توقف عند هذا، ولم يتناول ممارسات قد لا تقل أهمية عن ذلك من منظور حقوق الإنسان، على الرغم من أنها لا تتسبب في الخسائر المادية، ولا تسبب خسائر في الأرواح إلا بأطر محدودة، وهو الإرهاب الذي يمارسه بعض الحكومات على شعوبها، وتضع التابوهات على بعض الأفكار وتحرم تداولها وتمتلئ سجونها بحملتها، وتشل تفكير من هم خارجها...

وتنشغل دوائر الهجرة في الغرب بالتعامل مع مشرديها وطالبي اللجوء فيها. فهذا النوع من الإرهاب يسلطه بعض الحكومات على شعوبها، وتجد شرعية في تسليطه باعتماد صيغ تضمنها في الدستور أو في القوانين الملحقة، تزرع الرعب في قلوب الناس وتردعهم عن التفكير بحجج مختلفة.

وهذا النوع من الإرهاب يشترك مع الإرهاب الذي يتحدث عنه الجميع، في كونه وسيلة إكراه لتحقيق هدف تسعى إليه السلطة القائمة، وهو ضمان الطاعة والرضوخ أو عدم الاعتراض والتمرد على مواقفها أو سياساتها.

هذا النوع من الإرهاب لا يتم التطرق إليه إلا عند الحديث عن الدول ذات الحكم الشمولي، حيث لا تستخدم مفردة "الإرهاب"، بل تستخدم مفردات أخرى بديلة أخف وطأة، مثل "الديكتاتورية" أو غيرها، مما يجعل من يمارسها في خانة أقل مدعاة للمساءلة والإدانة من وضعه في خانة الإرهاب.

وإذا كان هذا النوع من الإرهاب قد بدأ يلقى بعض الاهتمام لدى الأسرة الدولية منذ نهاية الحرب الباردة، وبدأت الحكومات المتهمة بممارسته تعمل على وضع مساحيق التجميل تحسبا لعزلة دولية، وربما تحسبا لأكثر من ذلك، إلا أن هناك نوعا آخر من الإرهاب قد لا تكون الحكومات مسؤولة عنه، بل يسلط من قبل أفراد أو مؤسسات أو أحزاب أو تكتلات..

وهو ما يحدث في أكثر من بلد عربي في الوقت الحاضر، وهو ما يمكن تسميته "الإرهاب الفكري" الذي تختلف مستويات ممارسته وتأثيره حسب مستويات المؤسسات الضالعة فيه. فقد تشكل العلاقات العشائرية أو المناطقية أو الاجتماعية أو الإثنية أو الدينية أو المذهبية، مداخل لممارسته والاستفادة من دوره في صناعة الأحداث..

إلا أن أكثرها خطورة وتأثيرا هو الإرهاب الذي يسلط بغطاء العقيدة الدينية، عن طريق إصدار الفتاوى التي تعتبر بمثابة شعارات تحريكية تحشيدية، تجمد العقل وتلغي دوره وتسلب إرادة قطاعات واسعة من الناس، وهو ما نشهده الآن في الأجواء السائدة التي تجرى فيها حملات الانتخابات العراقية.

إن تفخيم وتهويل دور "المقدس" في الحياة وإقحامه في كل صغيرة وكبيرة، هو مسعى نحو الاستبداد بأدوات هذا المقدس، فمن يستخدمه إنما يتاجر به للتأثير في عقول الغالبية العظمى من الناس، التي تتبع طائعة ما تعودت النظر إليه باحترام كبير يقرب من التقديس.

ففي الوقت الذي التزم معظم المراجع الدينية بإعلان حياديتها والنأي بنفسها عن تأييد طرف دون آخر، في الحملات الانتخابية الجارية في العراق، ينبري أحدهم بإصدار فتوى تحريم انتخاب مرشح من تيار سياسي معين، دون أن يراعي حقوق الناس في التعبير عن رأيهم وحقوقهم في اختيار من يثقون بأمانته ونزاهته.

"الإرهاب الفكري" المسكوت عنه، هو إحدى الوسائل التي تكسب السلطة المنتخبة شرعية شكلية، حين يستخدم للتأثير على العملية الانتخابية وحرفها عن مسارها الديمقراطي.

 

الأكثر مشاركة