التبسيط الفادح والأحلام المفخخة

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد انفجار الثورة في تونس وفي مصر، اعتقد الكثيرون أن الحدث يمكن أن يتكرر في سوريا، إذ يكفي أن تندلع الشرارة في مكان، لكي يخرج الشعب من سجونه ويسقط نظام الحكم بأقل التكاليف. غير أنه كان من التبسيط الفادح المقارنة، على سبيل المماهاة، بين سوريا وبقية البلدان العربية، وبالأخص تونس، إذ الفارق كبير بين النظام السوري والنظام التونسي، ومن غير وجه..

ففي تونس، لم يكن النظام يستند إلى منظومة إيديولوجية يستمد منها المشروعية في استلامه السلطة والبقاء فيها، ولم يكن يملك رؤية مستقبلية أو ثوابت عقائدية أو تصورات شاملة، في ما يخص إدارة الدولة وبناء المجتمع وهوية البلد، أو في ما يخص أعمال النهوض والإصلاح والتحديث. صحيح أن النظام رفع شعار التنمية، وحقق بعض النجاح في هذا المجال، ولكن أعمال الفساد والنهب المنظّم سرعان ما أطاحت بما تحقق، لكي تنتج الفقر والبطالة المتفاقمة.

أما في سوريا، فالنظام هو صنيعة الإيديولوجيا، إذ هو استند، منذ البداية، إلى تركيبة عقائدية مغلقة، جمعت بين الفكر القومي الفاشي، والفكر الاشتراكي الطوباوي، بقدر ما تعيش على شعارات كانت هي المحرك للشعوب العربية في سعيها الحضاري لتحديث حياتها وصنع مستقبلها.

هذه المنظومة الإيديولوجية، بتصوراتها الشاملة ويقينياتها الثابتة وادعاءاتها النظرية ومطلقاتها الخشبية، قد شكلت السقف الرمزي الذي سوّغ بقاء النظام وتجدده، وحصّنه ضد خصومه وأعدائه في الداخل والخارج، مقدماً له الغطاء لمصادرة الحريات وقمع كل أشكال المعارضة، والمبرر لإدارة الشأن العام بعقل أمني مافيوي، أنتج القهر والعنف والفساد، بقدر ما فبرك مجتمعاً ملغماً ينتظر ساعة الانفجار.

وفي تونس، كان هناك نظام على رأسه حاكم مستبد، مطلوبه أن يقوم كل فرد أو مواطن بعمله، من غير أن يتعاطى الشأن السياسي، إلا إذا كان ولاءً لصاحب النظام. هذا، في حين أن النظام في سوريا هو نظام شمولي يهتم بقولبة الأفراد وتطويعهم وإخضاعهم في أطر الحزب وهيئاته المختلفة، لكي يذعنوا ويمارسوا فروض الطاعة والتأليه لصاحب النظام.

وفي تونس، لم يكن النظام يستند إلى عصبية، سوى عصبية الحزب الدستوري، التي هي عصبية ضعيفة هشة. أما النظام السوري، فقد ارتكز وانبنى على عصبية قوية أيقظها وغذاها، طوال عقود، ليوظفها في خدمة استراتيجيته الشمولية. وهي عصبية طائفية، تمكنت من التحكم في مقدرات المجتمع، وتحويل النظام الجمهوري الديمقراطي والحزب السياسي العلماني، إلى مجرد واجهة لتغطية هيمنة أسرة على طائفة، أو طائفة على مجتمع بكامله.

وأخيراً، لم يكن للنظام في تونس تحالفات أو ارتباطات خارجية يفيد منها أو يستقوي بها، خارج دائرة المصالح الاقتصادية أو التبادلات التجارية. أما النظام السوري، فقد بنى، على غير ساحة وفي غير بلد، شبكة من العلاقات الوثيقة الأيديولوجية أو الاستراتيجية أو العسكرية، مع أنظمة ودول وأحزاب تتدخل وتشارك في الحرب الدائرة الآن، لكي تمنع سقوطه، وهي قوى تمتد من طهران إلى موسكو، ومن حزب الله في لبنان إلى الميليشيات الشيعية العراقية.

كل ذلك جعل النظام السوري يمتلك أوراقاً للعب والمناورة والمواجهة، لا تملكها الأنظمة العربية الأخرى. من هنا، تهاوى النظام البوليسي في تونس، كما لو أنه بناء من الكرتون، في حين أن النظام السوري جر البلاد والعباد إلى حرب أهلية طاحنة وماحقة، ربما لم يشهد التاريخ المعاصر مثيلاً لها، بمجازرها ومآسيها، اعتقالاً وقتلاً أو تهجيراً ودماراً.

ولعل الثورة السورية التي بدأت سلمية، مدنية، بقادتها وقواها وداعميها، تدفع ثمن هذا التبسيط في الفهم والتشخيص للواقع السوري. ولكن، لكل شيء وجهه الآخر، فبعد أن كان النظام في سوريا لاعباً وفاعلاً عربياً وإقليمياً، باتت سوريا الآن ملعباً للصراعات والتجاذبات، لكل من يمكنه التدخل واللعب.

من التبسيط، وصف الحروب الأهلية الدائرة في غير بلد عربي من بلدان المشرق، بأنها حروب مذهبية بين المسلمين. فنحن إزاء حرب مركبة، يختلط فيها البعدان القومي والديني، في عالم عربي يتردد بين العجز في الداخل، والاستهداف من الخارج، تمزق المجتمعات العربية وتفكيك وحدتها الوطنية، وتهجير ملايين السوريين من ديارهم باسم الدفاع عن المقاومة. وتلك هي المفارقة الفاضحة لمشروع مفخخ بإرادة السيطرة والأحلام المستحيلة.

 

Email