المفارقة في مفاجأة غيتس لواشنطن

ت + ت - الحجم الطبيعي

بالنسبة إلى الهستيريا التي أثيرت حول المذكرات الجديدة لوزير الدفاع الأميركي السابق روبرت غيتس، المطلع على بواطن الأمور، عن فترة توليه لمنصبه خلال إدارتي كل من الرئيس الأميركي السابق جورج بوش ونظيره الحالي باراك أوباما، فإن كل ما كشف عنه يعد أقرب لخيانة الأمانة منه إلى الكشف عن تفاصيل مزلزلة، إذ يعد الكثير مما احتواه كتاب "الواجب: مذكرات وزير في حرب"، أموراً عادية في الخدمة العامة.

وما كان إشاعة صغيرة في الكتاب، والذي قد يكون مثيراً للجدل، هي أمور معروفة، بالفعل، من قبل العديد من الأميركيين؛ مثل الكشف عن أن كلاً من وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون والرئيس الأميركي باراك أوباما، عارضا زيادة عدد القوات المهاجمة في العراق خلال عهد بوش، وذلك لأسباب سياسية، أو أن نائب الرئيس الأميركي جو بايدن مغرور أخرق.

يرى روبرت غيتس نفسه أنه قد تم جره لواشنطن، كرهاً، للمساعدة في إنقاذ حروب إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش المتلاشية، وغير الشعبية، في العراق وأفغانستان. وفي عام 2009 بقي على مضض في وزارة الدفاع، على ما يبدو لإضفاء بعض الرصانة لما كان، في بعض الأوقات، الفريق الجديد للرئيس أوباما، عديم الخبرة، وبشكل هزلي.

هنالك عرف طويل للمطلعين على بواطن الأمور من المتقاعدين في مواقع القرار، في الكشف عن تفاصيل بعيدة عن المجاملة بشأن مدرائهم، وذلك قبل تركهم لمناصبهم، ولا تدعو تلك التفاصيل لرفع المعنويات. اعتقد "بترونيوس"، المطلع على دواخل أمور البلاط الروماني، أن بمقدوره الإفلات من عواقب التصوير الساخر للإمبراطور "نيرون" خلال روايته المفعمة بالحيوية "ساتيريكون"، إلا أنه لم ينجح في ذلك وأجبر على الانتحار.

إن مشكلة نوع الكتب التي تحتوي عادة على معلومات جديدة أو صادمة، أنها تتضمن الكثير من المفارقات التي تجعلها عادة، حتى بالنسبة إلى أكثر كاشفي الحقائق إخلاصاً. إذا كانت الأمور سيئة للغاية بحيث تعين على مخضرمٍ مطلعٍ على الشؤون الداخلية مغادرة الحكومة، وإفشاء أسرار رؤسائه بينما هم لا يزالون في مناصبهم، فلماذا عمل أصلاً لحساب هؤلاء الأشخاص المشتبه فيهم؟ ولماذا بقي مدة طويلة في مثل هذه الوظيفة الكريهة؟

إذا اعترف روبرت غيتس بأنه لم يستمتع حقاً، وبتاتاً، بالعودة لواشنطن، يتساءل بعدها القراء عن سبب شعوره بالمفاجأة من ممارسة تقدّم المهنة على حساب النزاهة الشخصية، والتي وجدها بشكل متوقع!

في عصرنا الحالي، بسبب الهيمنة المتقدمة لوسائل الإعلام، غالباً ما تعامل مذكرات حول رؤساء جمهوريين حاليين، باعتبارها أمثلة شجاعة لقول الحقيقة للسلطة، إذ أشادت الصحافة الحزبية بالهجوم على إدارة الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان، من جانب أعضاء الحكومة المغادرين لمناصبهم، مثل دونالد ريغان وألكسندر هيغ. وخلال الإدارة الماضية للرئيس السابق جورج بوش، عندما صاغ مسؤولون معينون رفيعو المستوى، ومستاؤون، من أمثال ريتشارد كلارك، لورانس ليندسي، بول أونيل، سكوت ماكليلان، وكريستين تود ويتمان، انتقادات للصالح العام، تخص الرئيس الحالي وفريقه، وصفتهم الصحافة بأنهم أرواح شجاعة ممن قدموا الواجب الوطني على حياتهم العملية.

جرب فعل ذلك مع رئيس ليبرالي مثل بيل كلينتون، ليفشي المطلع، على حين غرة، جميع المعلومات، أكان من خلال ديك موريس، أو روبرت رايش، أو جورج ستيفانوبولوس، وعندئذ سينظر إليهم في أفضل الأحوال، على أنهم قاموا بإعطاء أخبار ساذجة وسيئة التوقيت.. وفي أسوأ الأحوال، على أنهم خاسرون لا يقبلون الخسارة، ويحاولون بشكل انتهازي تصفية الحسابات.

هل ينبغي حقاً أن يكون روبرت غيتس متفاجئاً بأن كلاً من وسائل الإعلام والبيت الأبيض يتساءلان عن الدوافع وراء النصف الثاني من مذكراته عن إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما؟

يثير السماح للعامة بمعرفة التوافه الأكثر خصوصية للسلطة التنفيذية، مفارقة أخرى، إذ لا يرغب أحد في القراءة عن التفاصيل المملة لأغلب اجتماعات مجلس الوزراء، حتى لو كان ذلك ما يقاسيه مسؤولو الإدارة في الغالب. لهذا، بدلاً من ذلك، تعتبر تلك التفاصيل من الأمور المثيرة النادرة التي يكشف عنها، بحيث نقلب الصفحات لنقرأ عن الطعن في ظهر البيروقراطية، ونوبات الغضب التي تغلب عليها الألفاظ النابية، أو العادات الغريبة للزعماء الأجانب. إلا أن هذه التفاصيل التي يتم الكشف عنها، والأقل شيوعاً، هي بالضبط ما يجدر بالعالم ألا يعلم بشأنها إلى أن تغادر الإدارة السلطة.

في مذكرات روبرت غيتس، الحكاية المثيرة القائلة إن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي انتقد الإيرانيين بشدة، تجعلها أكثر حيوية للقراءة، مقارنة بنشوب شجار آخر في البنتاغون متعلق بالميزانية. يكتب روبرت غيتس أنه كان مستاءً من التسريبات خلال فترة توليه منصب وزير الدفاع. لذلك ما هو اعتقاده حيال شعور إدارة الرئيس أوباما بشأن انتهاكه للسرية، والذي يثير تساؤلات حول صدق الرئيس أوباما وكفاءته؟

يجب غالباً النظر للدوافع وراء الإفصاح عن المعلومات، بأنها مريبة. وينبغي أن يصر المؤلف على أنه يخاطر بإثارة الجدل، فقط لرغبته بأن يعرف العامة معلومات حاسمة لبقاء الحكم الديمقراطي الشفاف، وخاصةً المعلومات المتعلقة بسوء استخدام السلطة.

غير أنه، بدلاً من ذلك، روج الضجيج الإعلامي للشذرات المفعمة بالحيوية. مع حجز المعلقين على الشؤون العامة، المؤلف المطلع على الشؤون الداخلية لاستضافته في كل برنامج إخباري يمكن تصوره، أملاً في اختلاق شائعة، والقيام بقفزة البداية لإيجاد تجارة رابحة للكتب الأكثر مبيعاً. ويمكن أن يكون روبرت غيتس مندهشاً لتساؤل الناقدين عن سبب كتابته لمذكراته الآن، عوضاً عن انتظار مغادرة الرئيس باراك أوباما لمنصبه والاختفاء عن الأضواء.

المفارقة في كتاب "الواجب"، هي أن روبرت غيتس رجل شريف خدم بلده بشكل فعّال وجدير بالإعجاب، غير أنه ألف كتاباً بعيون المطلع، عن رئيس لا يزال في السلطة ينتمي إلى نوعية تشعر بالسأم.

 

Email