حول ثنائية الطبيعة والثقافة

ت + ت - الحجم الطبيعي

يدور في فرنسا، منذ فترة، سجال صاخب تشترك فيه مختلف الأحزاب والقوى السياسية والمدنية والثقافية.

وهو لا يدور حول قضية خاصة تهم الرأي العام، كما جرى السجال أخيراً حول الحياة الخاصة لرئيس الجمهورية فرانسوا هولاند، بعد انكشاف قصة غرامه مع إحدى الممثلات وانفصاله عن رفيقة حياته فاليري تويرفيلير، وإنما يدور حول قضية عامة وحساسة، بقدر ما هي مسيّجة أو ملغمة بالنواهي الخلقية والمحرمات الدينية، كما هي مسائل العلاقة بين الذكور والإناث، أو أشكال الزواج وأنواعه، أو طرق وآليات الإنجاب والتبني..

ومما جعل الجدل يحتدم وينتقل إلى الشارع، أن هناك ميلاً إلى إدراج هذه المسائل في برامج التعليم، في مراحله الابتدائية والمتوسطة.

وكانت الحكومة الفرنسية الحالية، ذات النهج الاشتراكي، قد أعدت برامج تعليمية تستهدف كسر بعض الثوابت الراسخة، فيما يخص الفروقات بين الإناث والذكور، تأكيداً منها على المساواة بين الجنسين، خاصة وأن هذه الحكومة كانت قد تشكلت، أصلاً، مناصفة بين الرجال والنساء، ربما لأول مرة في فرنسا.

ولا شك أن النقاشات الدائرة تعيد إلى الأذهان السجال القديم حول ثنائية الموروث والمكتسب، ولكن من خلال ثنائية جديدة، هي ثنائية الطبيعة والثقافة، وبالتحديد عبر صياغتها للأحدث، أي نظرية النوع (gender).

ومعلوم أن هذه النظرية تردّ أكثر الفروق بين الجنسين، في العادات والصفات أو المزايا والأدوار أو اللباس والزينة، لا إلى الطبيعة الجسدية والفيزيولوجية لكل منهما، بل إلى الأنساق الثقافية والبنى المجتمعية التي تعطي الأولوية والأفضلية للذكر على الأنثى، فيما يخص حظ كل منهما ونصيبه، سواء في الذكاء والمعرفة أو في السلطة والثروة، وعلى نحو تعامل فيه المرأة بوصفها أدنى من الرجل، من حيث النوع والرتبة.

هذا ما تحاول دحضه "نظرية الجندر" التي تذهب في حدها الأقصى، وعلى سبيل المغالاة، إلى أنه لا وجود لما هو طبيعي في عالم الإنسان، إذ كل شيء هو ثقافي، بما في ذلك هوية المرأة أو الرجل، فضلاً عن الخيارات والممارسات.. أي هي تكاد تدعو إلى إلغاء الفروقات بين البنين والبنات.

وكانت الكاتبة والفيلسوفة الفرنسية سيمون دو بوفوار (1986-1908)، سباقة في هذا المجال، بشعارها القائل، منذ الخمسينات من القرن العشرين "لا تولد الأنثى امرأة، بل تصبح كذلك".

مثل هذا الاتجاه يلقى مقاومة شديدة في فرنسا، من قبل اليمين المحافظ بمختلف اتجاهاته وتشكيلاته السياسية والمجتمعية، التي تتهم اليسار بسعيه إلى تدمير الرابطة العائلية وتفكيك الهوية الوطنية.

هذا ما شهدت به التظاهرات والاحتجاجات ضد سياسة الحكومة الاشتراكية، منذ العام الفائت. وقد التقت الأصوليتان الشقيقتان/ العدوتان، الكاثوليكية التي هي الأكثرية والإسلامية الوافدة، في رفع شعار واحد يطالب بالمحافظة على الشكل التقليدي للعائلة الممثلة بعناصرها الثلاثة؛ الأب والأم والأولاد، وعلى القيم التي توزع الأدوار بين النساء والرجال، بحسب ما جرت الأعراف والتقاليد.

وقد اضطرت الحكومة الفرنسية للتراجع، وقام وزير التربية بجولة على المدارس لكي يشرح الموقف، مؤكداً أنه لا يدعو إلى تطبيق "نظرية الجندر"، وإنما يحاول أن يسلط الضوء على أشكال التمييز والاضطهاد التي تتعرض لها النساء، في المدرسة أو في البيت والمجتمع، والتي هي ضد مبادئ المساواة التي تنص عليها قوانين الجمهورية الفرنسية.

لا شك أن هناك الكثير من التصرفات والأدوار التي يعتقد أنها تناسب طبيعة المرأة أكثر مما تناسب طبيعة الرجل، أو بالعكس، وليست هي كذلك، أي ليست نابعة من الطبيعة، وإنما هي عادات ونماذج زرعت في الأذهان، بقدر ما هي صنيعة المجتمع بمؤسساته وسلطاته وقيمه. من ذلك؛ الاعتقاد بأن الذكور مؤهلون أكثر من الإناث للتخصص في الرياضيات وبقية الفروع العلمية.

هذا التقييم الشائع لا يصمد أمام الوقائع التي تشهد بأن المرأة أخذت تبرز في مختلف الميادين التي كانت حكراً على الرجال. واليوم، إذ تنتقل المجتمعات من عصر العضلة إلى عصر المعلومة، نجد أن الطالبات يتفوقن أحياناً على الطلاب في غير مجال.

لا يعني ذلك، بالطبع، الغلو في المسألة، بإنكار كل ما هو طبيعي. فالإنسان هو ابن الطبيعة وثمرة التطور، بإناثه وذكوره المختلفين من حيث جنسهما أو ميولهما.

ولكن الاختلاف الطبيعي لا ينبغي أن يفهم بوصفه ضد المساواة في الحقوق بين الجنسين، ولا أن يختزل أو يساء استخدامه بتحويله إلى تمييز جائر بين الرجال والنساء. الأجدى أن يعامل الاختلاف كإمكان وجودي، كمصدر للتنوع الخلاق والبناء في الحياة والمجتمع، وفي الفكر والثقافة، كما في السياسة والمجتمع.

من هنا فالمعادلة الوجودية، هي أن نتجاوز أشكال التطرف والغلو في المذاهب المتعارضة، بحيث لا يخضع الواحد للطبيعة بحتمياتها العمياء، ولا يقفز فوقها بتشبيحاته التحررية، بل يتصرف بوصفه مدبراً وراعياً، بقدر ما يحرص على إقامة التوازن بين مختلف العناصر والأبعاد، ببناء صيغ تركب على نحو خلاق بين ما هو فطري وما هو ثقافي، بين الذكر والأنثى، بين ما هو واقع وما يفوق الواقع.. فلا شيء أكثر ضرراً من التفكير والعمل على وجه واحد أو مستوى واحد أو محور واحد...

لنحسن قراءة الواقع والتجارب، بحيث لا نعمل بمنطق الثنائيات التي ينقض بعضها بعضاً، أو بعقلية الأضداد التي يتواطأ بعضها مع بعض.

فالثنائيات، سواء على مستوى العناصر والكائنات أو الجنس والنوع أو الفكر والثقافة، هي موجودة لكي نصنع منها تراكيب وصيغاً مفيدة، مثمرة، بناءة... وإذا كان البشر يكادون يدمرون الطبيعة والبيئة الحيوية بالتلويث والتصحر والتبديد، فحذار أن يدمر الإنسان طبيعته بنرجسيته وهوسه، بحمقه وجنونه.

خلاصة القول في هذه المسألة، أن الإنسان كائن طبيعي، ولكن علاقته بطبيعته هي علاقة ثقافية، بمعنى أنه يشتغل عليها، كمادة للصناعة والتحويل، أو مجال للعمل والبناء، أو معطى للتهذيب والتحسين، بالنظر والذوق، بالمعرفة والدراية، بالتخيل الفني والاختراع التقني، فضلاً عن عقلنة التصرفات والأهواء بابتكار قواعد التضامن والعيش المشترك.

 

Email