باسم يوسف وأزمة الإعلام في مصر

ت + ت - الحجم الطبيعي

سواء أكنت مؤيداً لبرنامج "البرنامج" الذي يقدمه الإعلامي المصري المتميز باسم يوسف، أو كنت معارضاً له، فإن الأمر الذي لا مراء فيه هو أن هذا البرنامج الهزلي الساخر، يكشف عن العديد من الجوانب وثيقة الصلة بطبيعة الإعلام العربي عامة والمصري منه خاصة.

وربما لا تقف هذه الجوانب فقط عند حدود الإعلام، لكنها تتعدى ذلك لترتبط بالشخصية العربية المعاصرة والسمات المختلفة المرتبطة بها. وتشمل هذه الجوانب:

1- أن الكثير من الإعلاميين لا يتحلون بذلك القدر من التماسك القيمي الذي يجعلهم يمارسون مهنتهم بحرفية عالية، تبتعد بهم عن السقوط في حبائل الضغوط السياسية والأيديولوجية المختلفة؛ فهم أقرب للعمل مع "الرايجة" وفق تعبير المصريين الشائع، دون أن يستندوا لقناعاتهم الفكرية والأيديولوجية أو يسعوا لتحقيق المصالح المجتمعية العامة.

2- إننا أمام كتلة نخبوية جديدة، تستطيع أن تحرك المجتمع كيفما تشاء وفق ما يعن لها، وبشكل أكثر دقة وفق مصالح وتوجهات وأهواء صانع القرار السياسي.

فهذا النفوذ الذي يمتلكه الإعلاميون، هو نفوذ بالوكالة لرجال أعمال وصناع قرار ومؤسسات محلية وإقليمية عديدة. بمعنى آخر، إن هذه الواجهات الإعلامية التي تبدو على الشاشة قوية ومتنفذة، هي في النهاية مجرد أدوات تحركها قوى أخرى نافذة ومتنوعة.

3- إن الحديث عن الديمقراطية والمساواة والعدل الاجتماعي من قبل الكثير من الإعلاميين، هو مجرد كليشيهات خالية من المضمون، فالكثير من أحاديث هؤلاء مجرد لغو يتم حشوه ضمن ساعات البث المفروضة عليهم والتي يجب عليهم ملؤها.

4- عدم امتلاك الكثير من الإعلاميين لبنية فكرية حقيقية يؤمنون بها ويدافعون عنها، وهو أمر يظهر من خلال تلك التناقضات الحادة من قبل هؤلاء الإعلاميين، والتي عرض لها برنامج "البرنامج". فمن إيمان بالثورة والدفاع المستميت عنها والحديث عن سقوط العسكر، إلى الانقلاب عليها والتأكيد على أهمية دور العسكر في الحياة المصرية.

ومن الإيمان بدور الشباب والإشادة به وبطهارته وبثوريته، إلى التنديد به والرغبة في التخلص منه والسعادة بالزج به في غياهب السجون. ومن قمة التنديد بالشرطة وأفعالها بعد ثورة 25 يناير، إلى الارتماء في أحضانها والإشادة بشهدائها والحديث عن عظم إنجازاتها.

5- الاعتماد المفرط، وربما الساذج، من قبل الكثير من هؤلاء الإعلاميين، على ضعف ذاكرة المشاهدين، ونسيانهم الكامل لتناقضاتهم وتضارباتهم المختلفة. وينسى هؤلاء الإعلاميون أننا في عصر لم يسبق له مثيل، من حيث تسجيل كل شاردة وواردة.

فالمرء لا يمكنه الآن أن يخدع المشاهدين والمتابعين في عصر تمتلئ ساحات الإنترنت بكل ما نقوله، وفي عصر يمكن لأي شخص أن يسجل لنا بالصوت والصورة تناقضاتنا وفضائحنا المختلفة، وكما يقول المصريون الأمر أصبح الآن "على عينك يا تاجر".

6- إن الساحة الإعلامية أصبحت تمتلئ بكل من هب ودب؛ فهذا شيخ ترك أمور الدعوة والإمامة، وإذا به يصبح إعلامياً مرموقاً يتحدث فيما يفهم، وهذا باحث ترك بحوثه ودراساته وإذا به يصبح خبيراً أمنياً في شؤون الجماعات الدينية والعمليات المرتبطة بها، وهذه إعلامية درجة ثالثة وجدت قنوات عديدة تحتفي بها وتجعل منها رمزاً إعلامياً جديداً يتحدث في أي شيء وفي كل شيء، دون ضوابط ودون خوف من الحديث للمشاهدين والعبث بعقولهم.

7- الشيء الواضح هنا من خلال برنامج "البرنامج"، أن الإعلام في مصر أصبح مهنة من لا مهنة له. فمن يمتلك لساناً وجرأة وقدرة على الافتئات والظلم والشراسة، يمكنه أن يمتلك حيزاً إعلامياً يصول ويجول من خلاله على عباد الله الغلابة من الفقراء والمعدمين والأميين.

ولعل ذلك يشير من طرف آخر، إلى الكيفية التي يتم العثور بها على هذه النوعية من الإعلاميين وتصديرهم للمشهد الإعلامي الراهن، دون وضع معايير صارمة للاختيار والانتقاء.

8- أخيراً، تبدو الأموال الطائلة التي يحصل عليها الإعلاميون هذه الأيام، والتي تبلغ الملايين، مسوغاً لما نشاهده من تغيير القناعات والتوجهات وزيادة حجم التناقضات المفضوحة التي لم نعهدها من قبل. إن هذه الأموال الهائلة، تساعد بشكل كبير على دفع العديد من الإعلاميين للقبول بالكثير من المهاترات، وعلى بيع أنفسهم للمحطات الفضائية، بغض النظر عن قناعاتهم وتوجهاتهم الفكرية.

 ولعل ردود الكثيرين منهم على ما كشفه برنامج "البرنامج"، تبين المدى الذي وصل إليه هؤلاء من الصلف والغطرسة وعدم الاهتمام بفضح تناقضاتهم وكذبهم. فالملايين التي تمتلئ بها جيوبهم، أهم عندهم من الاتساق والالتزام بقيم أخلاقية عفا عليها زماننا العربي الراهن!

 

Email