أوكرانيا بين جحيم أوراسيا وعجز أوروبا

ت + ت - الحجم الطبيعي

ها هي أوكرانيا تصنع ثورتها بقواها الحية التي تطمح إلى بناء دولة مستقلة، مدنية، ديمقراطية، بحيث تتحرر من الإرث الروسي القيصري والإمبريالي، كما يجسده اليوم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وقد نجحت أوكرانيا عبر انتفاضتها الأخيرة، حيث هرب الرئيس الموالي لموسكو، فيكتور يانكوفتش، الذي تتهمه المعارضة بأنه أفقر البلاد وقهر العباد بفساده وطغيانه.

ومع ذلك ليست أوكرانيا في طريقها إلى الفردوس التحرري، كما تفيدنا دروس الثورات. ذلك أن إقامة نظام جديد محل القديم الفاسد أو العاجز، ليست مفروشة بالورود، وإنما هي مهمة تواجه القوى المضادة، بقدر ما تصطدم بالصعوبات والعراقيل.

من هنا فإن بناء نظام جديد، يحتاج إلى جهود جبارة تشارك فيها مختلف قطاعات المجتمع وفاعلياته، بقدر ما يحتاج إلى صوغ أفكار خلاقة ورسم استراتيجيات فعالة للعمل والبناء والإنماء.

ثمة مشكلة أخرى أكثر تعقيداً وصعوبة تعاني منها أوكرانيا، شأنها شأن أي بلد يقع إلى جانب دولة هي أكبر وأغنى وأقوى منه، سيما إذا كانت تربطه بهذه الدولة روابط تاريخيه، قومية أو دينية، كما هي حال العلاقة بين أوكرانيا وروسيا التي تريد لأوكرانيا أن تبقى تدور في فلكها كما كان الأمر إبان العصر السوفيتي.

والرئيس بوتين هو من الحالمين بروسيا الكبرى، التي تعتبر أوكرانيا ودول أخرى جزءاً منها. ولذا فهو يسعى إلى بناء اتحاد جديد تقوده روسيا، تحت مسمّى "الاتحاد الأوراسي" كبديل عن الاتحاد الأوروبي. ويستند بوتين في ذلك إلى بعض المفكرين الروس، الذين يعتبرون أوراسيا مختلفة عن أوروبا من حيث ثقافتها وقيمها ونظمها السياسية.

وإذا كانت أوروبا ديمقراطية ليبرالية، فإن أوراسيا، كما يتصورونها، على النقيض من ذلك. ولذا يمكن أن تبنى بالجمع بين النموذج الروسي الاشتراكي، والنموذج القومي الاشتراكي الألماني، أي بين مساوئ ستالين وهتلر، على ما يشرح نظريتهم المؤرخ الأميركي تيموثي سنايدر.

وهذا ما كان قد دعا إليه، في خمسينات القرن المنصرم، الفيلسوف الروسي فيكتور ألين، الذي يعدّ بوتين من أشد المعجبين بنظريته القائلة بأن على روسيا أن تقيم ديكتاتورية قومية. ولذا فالأوراسيون يجيزون استخدام مختلف الوسائل لتحقيق مشروعهم.

والأحرى أن لا نعد إلين فيلسوفاً، وإنما هو من ديناصورات الفكر القومي الذي ازدهر في النصف الأول من القرن العشرين، لكي ينتج الأنظمة الشمولية والأحزاب الفاشية، كما تجسم ذلك في زمن هتلر وستالين وموسوليني وفرانكو...

ومن المفارقات أن أصحاب هذا المشروع الأوراسي، يتهمون المعارضة الأوكرانية بالنازية والإرهاب، فضلاً عن العمالة والخيانة.

وهذا دأب الأنظمة الشمولية والديكتاتورية، في اتهام خصومها أو أعدائها بما تتقنه من المساوئ والآفات والارتكابات. والشاهد تقدمه، في العالم العربي والإسلامي، الأنظمة والأحزاب التي تتهم خصومها بأنهم تكفيريون إرهابيون، فيما أساس معتقدها تكفيري، وبرنامج عملها هو صناعة الإرهاب ونشره.

هل ينجح بوتين في رهانه؟ استبعد ذلك، فلن تفلح اليوم إدارة الشؤون، سواء على مستوى وطني أو إقليمي أو عالمي، بالعقلية الديكتاتورية أو الإمبريالية التي أفضت إلى سقوط الاتحاد السوفيتي. ومع أن روسيا كانت يومئذ دولة نووية عظمى، فقد انهارت وأفلست لأنها فشلت في الاقتصاد. وإذا كانت قد نهضت وحققت قفزة في مجال التنمية، فلأنها اشتغلت بالقوة الناعمة وتخلت عن لغة الهيمنة.

فالأجدى لروسيا أن تتعامل مع جارتها أو شقيقتها الصغرى، كما تدعي، بمنطق التعاون والتبادل. وحده ذلك يحمي أمنها الاستراتيجي ومصالحها الاقتصادية، سيما أن روسيا ليست محتاجة إلى أوكرانيا، إذ هي اليوم الأغنى والأقوى. أما أوكرانيا الضعيفة والمفلسة فهي التي تحتاج إلى روسيا، إذا أحسنت هذه معاملتها.

ماذا بشأن أوكرانيا؟ وعلام تراهن بتوجهها نحو أوروبا؟

لا شك أن هذا التوجه له محركاته ومسوغاته، لأن أوروبا الديمقراطية الليبرالية هي المساحة الوحيدة في العالم الأقل ممارسة للعنف، بقدر ما تحررت من المشاريع الإيديولوجية والأنظمة الشمولية والنزعات الأصولية.

 ولذا، فإن التوجه نحوها يعني التحرر من العالم الأوراسي، الروسي، الذي كان يرمز إلى التخلف والبؤس والاستبداد والشعوذة، في زمن القيصر وراسبوتن وإيفان الرهيب، والذي حول في ما بعد المجتمعات إلى سجون في الزمن السوفيتي، بقدر ما أنتج أنظمة المخابرات ومعسكرات الاعتقال والإبادة، كما ترجمت أحلام لينين المستحيلة، خاصة في زمن ستالين جلاد الشعوب.

ومع ذلك لا يجدر بالمعارضة الأوكرانية الاستعجال على غير هدى ومن غير خارطة تضيء دروب المستقبل. أولا؛ لأن أوكرانيا بلد مجاور لروسيا، وثانيا؛ لأن هناك شريحة روسية في أوكرانيا ينبغي مراعاة خصوصيتها.

والأهم أن أوروبا لم تعد كما كانت قبل عقود؛ غنية، مزدهرة، نموذجية. فهي اليوم تكاد تغرق في أزماتها الاقتصادية والمعيشية، كما يشهد على ذلك إفلاس بعض دولها. من هنا فالرهان عليها لن يجلب السمن والعسل، والأجدى لأوكرانيا أن تشتغل على نفسها لكي تستثمر طاقاتها، كما فعلت الدول الناشئة.

 

Email