المسافة بين الآباء والأبناء

ت + ت - الحجم الطبيعي

تتمثل أكبر المشكلات، التي تواجه الأسرة العربية، في اتساع المسافة المعرفية والمعلوماتية بين الآباء والأبناء، ولم تكن المسافة في الماضي القريب بمثل هذا العمق والحدة بين الجيلين؛ فقد كانت المدارس والجامعات هي المؤسسات الأكثر تأثيراً في ذلك الوقت، وهي مؤسسات بطبيعتها العربية محافظة، ما يجعلها تمثل امتداداً للأسرة وثقافتها.

كل ما في الأمر أن هذه المؤسسات قد فتحت فرجة من الحرية أمام هذه الأجيال، وبشكل خاص الإناث.

أما الآن فقد تغير الحال تماماً في ظل الإنترنت والوسائط المرتبطة بها، إضافة إلى هيمنة القنوات الفضائية والتليفونات الحديثة.

يجد الأبناء أمامهم عوالم جديدة، تجعل منهم "جيل الشاشة" بامتياز، فهم في البيت إما يتابعون القنوات الفضائية، وإما أمام شاشات الحاسبات الشخصية الخاصة بهم، أو يتابعون ما يحدث عبر تليفوناتهم المحمولة الحديثة، والواقع أن التعامل مع تلك الوسائل من قبل الأجيال الحديثة، يقترب من حالة المرض والإدمان، وذلك ما نلاحظه في بيوتنا، من خلال ابتعاد أبنائنا عنا، والتصاقهم بشاشات الحاسبات الآلية أو بالتليفونات الخاصة بهم.

ويحدث ذلك كل يوم، وكل ساعة، بل كل دقيقة، فهم يحملون تلك الوسائط، وهم في السرير والسيارة والشارع وحتى في الحمام.

وهذا الإدمان يعرّض الأجيال الجديدة لعوالم من المعلومات بغثها وسمينها، كما يجعلها تبتعد عن التواصل الإنساني، الذي تربت عليه الأجيال القديمة، فالأجيال الجديدة تلتصق بالمحمول، خصوصاً إذا كان جديداً وحديثاً، أكثر من التصاقها بالآباء، وبمرور الوقت تتعمق المسافة، وتزداد الفجوة بين الآباء وأبنائهم، إلى الحد، الذي تصبح الشاشة، أي شاشة، أكثر حميمية وقدرة على إشباع احتياجات هذه الأجيال، مما يقدمه الآباء لهم.

ورغم التأثيرات السلبية الهائلة لتلك الوسائط الحديثة في الأجيال الحالية، وعلى رأسها اتساع الفجوة بين الآباء والأبناء، فإن الأمر لا يمنع من وضع بعض الإجراءات التي تقلل من تلك المخاطر، وتجنب المجتمعات العربية كوارث المستقبل.

ولا تمثل هذه الإجراءات وصفة معيارية واحدة، يمكن تطبيقها على كل أسرة، بقدر ما تعني تقديم أطر عامة وعريضة، تتكيف بها كل أسرة مع حجم الفجوة الحادثة بين الآباء والأبناء. وتتمثل هذه الإجراءات العامة في ما يلي:

* ضرورة وجود القدوة داخل المنزل، فالأبناء أكثر حساسية تجاه ما يحدث بين والديهم، فإذا كان عنوان العلاقة بين الوالدين هو المحبة والاحترام، فسوف ينتقل ذلك بسهولة ويسر لأبنائنا، والعكس أيضاً صحيح.

* عدم الإفراط في توجيه النصح والإرشاد للأبناء؛ فالأجيال الجديدة لا تحب تلك الصيغة القائمة على التوجيه والنصح، وما يصاحبها من توبيخ، ويمكن في هذا السياق الحديث مع الأبناء، وتمرير تلك النصائح بشكل عام، من خلال أمثلة عامة،أو من خلال ما يحدث للآخرين المحيطين بنا.

* وفي هذا السياق، علينا ألا نفترض دائماً أننا أفضل من أبنائنا، وأننا نفهم أكثر منهم؛ فالواقع الراهن يكشف أنهم أكثر معرفة منا، وأكثر تعرضاً للمعلومات والأفكار. من هنا فإن حديثنا معهم يجب أن ينقل لهم خبرات الحياة، التي تعرضنا لها بشكل يفهمونه، ومن دون كذب أو ادعاء للمثالية والبطولات الوهمية.

* يجب على الوالدين التعرف إلى عالم الإنترنت ووسائطه المختلفة، إضافة إلى مشاركة أبنائهم أي أنشطة، تتم عبر هذه الوسائط، فما يقوم به أبناؤنا تحت أعيننا، أفضل بكثير من تركهم أمام هذا العالم المخيف، الذي قد يودي بهم وبأخلاقهم ومعنوياتهم.

* التواصل المادي مع الأبناء من خلال جمع أفراد الأسرة وجهاً لوجه، على الأقل مرة أسبوعياً، مسألة على قدر كبير من الأهمية، تقدم نموذجاً للتواصل، بعيداً عن قبضة الشاشة، والخضوع المتواصل لها.

هذه مجرد إجراءات قد تجدي مع بعض الأسر، وقد لا تجدي مع البعض الآخر، لكن المهم هنا أن توفر الأسرة سياقاً معيناً من التواصل بين أفرادها؛ فهذه الإجراءات وغيرها لن تنفع، ولن تجدي فتيلاً، والأبناء مشتتون بين خلافات الوالدين، يشاهدون صراعاتهم ومشاجراتهم في كل لحظة ومناسبة.

من هنا فإن تجسير الفجوة بين الآباء والأبناء، يحتاج منا الاهتمام بالأسرة كونها واحدة من أهم مؤسسات التعليم والتربية، بل وصيانة المجتمع العربي في وجه كافة الكوارث، التي حاقت به منذ منتصف القرن الماضي، وحتى الآن.

 

Email