ضدّان لا يتعايشان

ت + ت - الحجم الطبيعي

الشهيد هو من يقاتل ويقتل، فداء لقومه أو دفاعاً عن قضية. بهذا المعنى الحصري، ليس كل من يقتل يعدّ شهيداً ولو كان مظلوماً. ولكن مصطلح "الشهادة" قد اتسعت دلالته وصار يستخدم في غير محلّه، بل هو من فرط استخدامه بات مستهلكاً أو مبتذلاً.

لكن البعض في لبنان تعدوا الرفض لهذا التوسع في التصنيف، إلى النقد له برفعهم شعار "لسنا شهداء بل ضحايا". وحسناً فعلوا، فالشعب اللبناني قد عانى الأمرين من شعارات المقاومة والبطولة، ومن رفع الشهادة إلى مرتبة القداسة.

وأنا أذكر أنه بعد تحرير جنوب لبنان عام 2000، أراد البعض التهجم على المثقفين "القاعدين في المقاهي"، فكان جوابي أن اللبنانيين كانوا، كلهم، مقاومين، بصبرهم وصمودهم، وبمتابعتهم لأعمالهم تحت القصف أو وسط الاشتباكات بين التنظيمات المسلحة في الأحياء والشوارع؛ التاجر الذي يفتح مؤسسته، والعامل الذي يذهب إلى مشغله، والموظف الذي لا ينقطع عن دوامه، والصحافي الذي يكتب مقالته، والمثقف الذي يجلس في مقهاه لكي يناقش أو يكتب.

 ولا أنسى الفلاح الذي كان يحرث حقله على دوي المدافع أو تحت هدير الطائرات، ولا السيدة التي تهرع بعد انفلات الأمن، وسط المخاطر، إلى مدرسة أولادها لكي تعود بهم إلى المنزل. ولولا صمود هؤلاء لما كان هناك، أصلاً، معنى أو جدوى من المقاومة.

أكثر من ذلك، كان الناس في لبنان، وما زالوا، يقاومون بصورة مضاعفة، إذا كان عليهم الصمود في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية من الخارج، كما كان عليهم الصمود في مواجهة حروب الداخل بين الأشقاء، بجيوشهم وأحزابهم ومنظماتهم ومقاوماتهم، وما مارسته من الاستقواء والتشبيح والفساد والتخريب.

بهذا المعنى، فاللبنانيون هم حقاً "ضحايا"، ولكن ضحايا تقديس الشهادة وتأليه البطولة. وهذه عاقبة من يقدس أو يعبد شيئاً: أن يقع ضحيته، أكان شهيداً أم غير شهيد.

لماذا تأخر التقاء الفريقين المتصارعين في لبنان، من أجل تشكيل حكومة وحدة وطنية جامعة تضع حداً للتدهور الأمني المريع؟

أعتقد أن الدعوة إلى الحوار تنمّ عن سذاجة وجهل بالواقع، فالتجارب أثبتت، أزمة بعد أزمة، أن الحوار لم يفض مرة إلى نتيجة، بدليل أن كل اتفاق يتوصلون إلى عقده يبقى حبراً على ورق، أو يُعمل على نقضه بعد صدوره.

كذلك الأمر في ما يخصّ حكومة الوحدة الوطنية، فهي ما أن تتشكل وتبدأ بعقد جلساتها حتى تتحول إلى ساحة صراع، بحيث تنتقل إليها النزاعات الحادة والتهم المتبادلة، بالتكفير والتخوين، وكما يتابع اللبنانيون فصولها من على الشاشات، الأمر الذي يؤدي إلى فشل الحكومة وشلّ عملها قبل أن تبدأ.

لنقرأ الواقع جيداً؛ فالصراع في لبنان لا يدور على حقائب وزارية، بل بين رؤيتين: لبنان البلد والوطن، أو لبنان الساحة والورقة. من هنا ثمّة استحالة للتعايش داخل حكومة واحدة، بين فريقين ضدين لكل منهما مشروعه المناقض لمشروع الآخر.

فالفريق الذي يندرج تحت مسمى 14 آذار، هو صاحب مشروع لبناني وطني، يهدف إلى استعادة لبنان لوضعه الطبيعي، كبلد مستقر آمن، بفك ارتباطه بالمشاريع الخارجية، وبتحييده عن الصراعات العسكرية الجارية في العالم العربي.

أما فريق "المقاومة والممانعة" فليس صاحب مشروع لبناني، لكونه يغلّب الولاء للخارج على الداخل، كما يشهد ارتباطه العضوي بالمرجعية الإيرانية، وقتاله إلى جانب النظام السوري، وتمسّكه الدائم بسلاحه الذي يعتبره الإيرانيون من ضرورات أمنهم القومي.

ولذا فإن هذا الفريق يعتبر أن هذه الثوابت الثلاثة لا تقبل المساءلة والمساومة، بل يلجأ إلى تخوين أو تهديد كل من يحاول المساس بها. وتلك هي حصيلة "القضية الوجودية"، كما يعبّر عنها "حزب الله"، إلا إذا كان اللبنانيون من الفريقين ومن يقف معهم في الوسط، لا يدركون معنى الأقوال ومآلاتها.

ومن هنا فإن الذين ما زالوا يطرحون أسئلة عما إذا كان حزب الله شارك في القتال إلى جانب النظام السوري، من أجل محاربة التكفيريين الإرهابيين أو من أجل الدفاع عن المقامات والقرى الشيعية، إنما يشهدون على غفلتهم أو يحاولون استغفال الناس.

لأن حزب الله منخرط عضوياً، طوعاً أو كرهاً، في الاستراتيجية الأمنية للمحور الذي تقوده طهران، ولا يحتاج إلى عذر لكي يشارك في القتال، كما اعترف الحزب نفسه في ما بعد، أي بأنه يقاتل دفاعاً عن النظام السوري، لا من أجل شيء آخر.

في ضوء ذلك يبدو الأفق مسدوداً أمام اللبنانيين للتوصل إلى اتفاقات تسفر عن تركيب حلول ناجعة، بأنفسهم ومن غير تدخل خارجي، في مختلف القضايا والملفات. هذا ما هو الواقع الآن، ذلك أن القوى الخارجية هي التي تحرّك الأحجار على رقعة الشطرنج، سيما بالنسبة لفريق المقاومة والممانعة.

ولكن إذا كان النظام الإيراني كسر المحرّمات وغيّر لما فيه مصلحة الشعب الإيراني، فلماذا يتمترس فريق المقاومة وراء ثوابته ومحرّماته؟ لماذا لا يقدم على التغيير لما فيه مصلحة لبنان ومختلف فئاته وطوائفه، بمن في ذلك حزب الله وشيعته؟ إن العاقل هو من يحسن أن يتغيّر، إذ لا مجال، بعد اليوم، لفئة أو طائفة أو قوة أو حزب أو زعيم، للاستقواء والانفراد أو الاستئثار بالسلطة تحت أي شعار كان.

فالوقائع تشهد بأن هذه سياسة فاشلة تنتج الكوارث، سواء على مستوى العالم، أو على مستوى منطقة أو دولة.

إن مفتاح الحلول هو في الداخل، أما البحث عنه في الخارج فإنه نهج يفضي إلى تعقيد المشكلة، لا إلى حلّها. لأن الدول ليست جمعيات خيرية ولو كانت شقيقة، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بأنظمة شعارها: أنا أو الطوفان، أنا أو أحرق الأخضر واليابس. وهكذا، فالخارج لن يساعدنا، بل يتخذنا رهينة في انتظار حل مشكلاته، أو يتعامل معنا كأداة لتنفيذ خططه الجهنمية.

 

Email