تأصيل الثورة المصرية

ت + ت - الحجم الطبيعي

لكل ثورة مصطلحات ومفاهيم خاصة بها، ولا توجد ثورة عبر التاريخ لم تنتج المصطلحات التي تبلور توجهاتها، وتحدد المسارات التي تتخذها.

وبالطبع لم تختلف الثورة المصرية عن باقي ثورات العالم في التأصيل الشعبي للأحداث، من خلال الشعارات المختلفة التي اتخذتها الجماهير نبراساً لها. وعموماً فإذا كان المصريون قد حققوا قدراً كبيراً جداً من التفاهم والتوحد في الأيام الأولى للثورة، فإن الانقسام الحاد مثل سمة واضحة لمسارات هذه الثورة والانتكاسات التي ارتبطت بها.

ويمكن القول إنه بعد مرور ثلاث سنوات على الثورة المصرية، فإن البعض قد بدأ يحاول التأصيل لها والكتابة العلمية عنها. وفي هذا السياق، فإن هناك العديد من التخصصات المطالبة بالقراءة الرصينة لأحداث الثورة المصرية، بعيداً عن أهواء السياسة والمخاطر المتربطة بها. فعلى المؤرخين وعلماء السياسة والاجتماع والنفس وغيرهم، أن يعيدوا قراءة المشهد المصري منذ 25 يناير وحتى الآن..

والكتابة العلمية عنه، خصوصاً إذا ما وضعنا في الاعتبار كم الإنتاج الهائل الذي تقذفنا به ماكينة الإنتاج الغربية، حول الثورات العربية والنتائج المرتبطة بها.

أولى هذه المسائل التي تحتاج لإعادة النظر والتأصيل العلمي، تتعلق بتحديد مفهوم الثورة، وما إذا كان ينطبق على الحالة المصرية أم لا. فأغرب ما في هذه الثورة، هو عدم الاتفاق الراهن بين المثقفين والجماهير العادية حول توصيفها بكلمة ثورة. يأتي ذلك في ظل المقارنات الدائمة بين ما حدث في 25 يناير وبين ما حدث في 30 يونيو.

البعض يرى أن ما حدث في الأولى يمثل ثورة جماهيرية حقيقية، عبرت عن نفسها بتلقائة وعفوية هائلة، ثم انتقلت إلى يد جماعة الإخوان المسلمين، الذين اقتربوا من تضييع هوية مصر، وهو ما أدى إلى تصحيح المسار من خلال ثورة أخرى هى 30 يونيو، وكأننا نتحدث هنا عن ثورة أدت إلى ثورة أخرى.

البعض الآخر يرى أن ما حدث في 25 يناير هو انتفاضة شعبية بامتياز، لم يكن يعنيها تغيير نظام الحكم، وتأسيس بنى اجتماعية وسياسية جديدة، بقدر ما كان يعنيها إسقاط رئيس الجمهورية ووزير داخليته، ومواجهة مشروع التوريث. وبالنسبة لهذا التوجه، فإن الثورة الحقيقية هى ثورة 30 يوينو، التي أسقطت نظام الإخوان، وأحلت محله رئيساً انتقالياً جديداً، تمهيداً لوضع دستور جديد، وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية جديدة.

بالطبع، فإن أصحاب الرأى الثالث، وهم الإخوان ومن يواليهم، يرون العكس تماماً مما سبق، فما حدث في 25 يناير يمثل ثورة شعبية، اشتركت فيها جميع طوائف الشعب، وهو أمر أوصلهم لسدة الحكم من خلال انتخابات ديمقراطية، انتهى أمرها إلى ما يسمونه "انقلاب 30 يونيو".

والواقع هنا، أن كل فصيل ينظر إلى الأمر من زاوية النظر الخاصة به والمصالح المرتبطة به، وهو أمر يستدعي ممن سوف يتصدون للكتابة عن هذه الأحداث، أن يضعوا مجموعة من المعايير التي تضمن ضبط المفاهيم ودقة المسميات.

فمن الصعوبة بمكان تناول أحداث 25 يناير أو 30 يونيو، دون الوقوف على حجم التغيير والمشاركة الجماهيرية ودرجة الوعي المرتبط بهما. ومن غير المعقول أن نقرأ ما حدث في هذين التاريخين ونتناولهما، ونحن نتصور أن المصريين قد تحولوا جذرياً بعد عقود ثلاثة من التجريف السياسي والاجتماعي والأخلاقي في ظل نظام مبارك.

كما أنه من غير المعقول أيضاً أن نتعامل مع الثورة إما بطهر وعفاف كامل، أو بتشهير وتلطيخ مطلق. فالثورات مثلها مثل أي فعل سياسي آخر، بغض النظر عن الفضاء العام الذي تحتله، لها ما لها وعليها ما عليها، لها جوانبها الإيجابية الجميلة، ولها جوانبها السلبية القبيحة.

ويرتبط بما سبق أمران آخران على قدر كبير من الأهمية، أولهما يتعلق بصعوبة العودة بالمصريين إلى مرحلة ما قبل 25 يناير، التي أحدثت وعياً جديداً لديهم، يجب على الكتابات الجديدة أن ترصده وتحدد ملامحه وجوانبه الإيجابية والسلبية.

وثانيهما يتعلق بما وفرته الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي من آلية غير مسبوقة للحشد والتجييش، في ثورات الربيع العربي بشكل عام، والثورة المصرية بشكل خاص. فالأمر اللافت للنظر هنا، هو الدور الذي لعبته الإنترنت والآليات الخاصة بها، في اندلاع هذه الثورات، والمراحل المختلفة التي مرت بها.

ورغم ما يشيعه البعض من أن هذه الموجة الثورية التي ارتبطت بالإنترنت قد ولت، فإن هذا الأمر لا يمكن الجزم به، ففي الواقع، الكمون الثوري الحادث الآن سوف يسترد نشاطه وعافيته مرة أخرى، وبشكل خاص عبر الإنترنت، وهى مسألة ربما سوف تظهر في السنوات القادمة، ما يتطلب دراستها والتيقن منها، درءاً لكل ما هو مفاجئ وثوري وعنيف.

 

Email