خطابات الجهل والخداع والنفاق

ت + ت - الحجم الطبيعي

وأخيراً، ها هي منظمة "القاعدة" تضرب في لبنان. والأخطر أنها جنّدت لبنانيين لكي ينفذوا تفجيراتهم الانتحارية، التي راح ضحيتها الآمنون والأبرياء من الناس، كما هي عادة الإرهاب الفاحش، الأعمى والوحشي.

هذا النموذج في الفكر والسلوك منتشر في غير بلد عربي أو إسلامي، بل هو ناشط في البلدان التي توجد فيها جاليات إسلامية، كما في أميركا وأوروبا.. ولا شك أن تفجيرات العصر، في 11 سبتمبر 2011، جعلت القاعدة تحظى بشهرة عالمية، لتشهد بأن العالم الإسلامي أصبح مصنعاً لإنتاج الإرهاب وتصديره إلى العالم.

وأنا منذ أثير الجدل، قبل سنتين، حول دخول عناصر من "القاعدة" إلى لبنان، كنت أقول لمن ينفي ذلك أو يتساءل عن صحة الخبر: أنا حيث أذهب ألتقي بأناس من "القاعدة" مع أنهم قد لا يتبنون أعمالها، أو قد لا يكونون قد سمعوا باسمها.

والقصد، بالطبع، هو أن هناك كثيرين يفكرون على شاكلة منظمة "القاعدة"، التي تجسد نمطاً في التفكير والمسلك يقضي بتكفير المخالف في المعتقد والرأي والموقف، مقدمة لإقصائه أو استئصاله كما في الحالات القصوى، أكان مسلماً أم غير مسلم، وخاصة إذا كان مسلماً. وأنا لا أبالغ في ذلك، إذا شئنا أن ندرك مبنى عقائدنا ومآل مذاهبنا القائمة على النفي المتبادل.

وليستيقظ من سباتهم العقلي، أولئك الذين فوجئوا وصدموا بوجود نماذج لأسامة بن لادن ولماجد الماجد، في لبنان، وكأن لبنان يعيش في جزيرة منعزلة عن محيطه العربي وعالمه الإسلامي، الذي هو الآن هو فريسة لحروب الإخوة والأشقاء.

فهؤلاء يقولون لنا بأن التفجيرات الانتحارية هي ضدّ ديننا وقيمنا وعاداتنا، فيما هي ثمرة العقائد الاصطفائية التي توهم صاحبها بأنه وحده، من دون سواه، يجسّد الحقيقة الدينية ويمثل الإسلام الأصولي الصحيح، مما يحمله على ممارسة وصايته على المسلمين، بجرّهم إلى دعوات مستحيلة وحروب مدمرة.

كذلك ليكفّ الآخرون عن ممارسة الجهل أو التمويه والخداع، وأعني بهم الذين يهاجمون التنظيمات التكفيرية الإرهابية، فيما هم مصنوعون من نفس العجينة الاصطفائية التكفيرية، بقدر ما هم من صناع الإرهاب ومصدّريه والمحتفين بنجومه وأبطاله. نحن إزاء نفس العقلية المفخخة بهوامات الكره والحقد والعداء، التي تنفجر قذائف تمزق الأجساد وتدمر الأرزاق في الشوارع والساحات العامة.

وهكذا فالنمط التكفيري ليس حكراً على التنظيمات الإسلامية، وإنما هو مشترك بين المنظمات الأصولية، أيّاً كان دينها أو مذهبها.

ولا حاجة للعودة إلى النصوص التي تصنع الهويات الموتورة، بل إن التفكير الأصولي هو خاصية، أقصد آفة، كل تفكير أصولي يدعي صاحبه احتكار الحقيقة، سواء تحت اسم الله أو الوطن أو الاشتراكية أو العدالة أو المقاومة.. وكما تشهد نماذج الحكومات اللاهوتية والأحزاب الفاشية والأنظمة الشمولية.

لا شك أن الأصولية تبلغ، اليوم، ذروتها تعصباً وتطرفاً وإرهاباً، مع التنظيمات والأحزاب الإسلامية التي يعتبر أصحابها أنفسهم نواب الله وخلفاءه أو الناطقين باسمه.

ولعلي أتجاوز هذا التوصيف الذي استخدمته مراراً، فما يحدث اليوم من عنف لا سابق له باسم الله أو الإسلام، يحملني على مضاعفة العيار النقدي، من أجل هتك البداهات المتحجبة من فرط الجهل والعمى والتعصب..

فالذين يدّعون أنهم عبيد الله أو حزبه أو العاملون على نصرة شرعه، إنما يتصرفون وكأنهم أسياد الكون والقدر الإلهي، ولذا نراهم يسخرون الاسم والرمز لأهوائهم ومطامعهم ونزواتهم ومفاسدهم وارتكاباتهم، التي تحول الإسلام إلى فزاعة على المسرح العالمي.

والشواهد بليغة، فالحرب الدائرة الآن في العراق وسوريا، والتي وصلت شظاياها الحارقة والمدمرة إلى لبنان، هي فضيحة الفضائح بشعاراتها المذهبية السافرة، التي توقظ الذاكرة الموتورة لتشحن النفوس بمشاعر البغض والعداء للمخالف، لكي نحصد كل هذه الدماء وكل هذا الدمار، وبصورة تجعلنا نترحم على حروب العرب في صدر الإسلام، لأن هذه الحروب كانت، في وجهها الأبرز، حروباً سياسية أكثر مما هي حروب عقائدية.

أما الحروب الجارية فإنها تغلف بغير غلاف رمزي، لإخفاء طابعها السياسي أو القومي..

وهكذا، فالكل يسهمون في صنع ما يستنكرونه من فساد واستبداد وخراب، تستوي في ذلك "القاعدة" وخصومها في العقيدة والسياسة؛ كما يستوي أساساً المصدر والمرجع: (1) الطاغية المتجبّر الذي يدعي أنه يحارب التكفيريين الإرهابيين، فيما هو يكفر بجميع القيم الدينية والخلقية والإنسانية، (2) والمرشد المتأله الذي تخرّجت من مدرسته النماذج التكفيرية الإرهابية، وهما وجهان لنفس العملة بقدر ما هما ضدان متواطئان، إذ الواحد منهما يستفيد من وجود الآخر، بقدر ما يسوغ بقاءه في السلطة من أجل محاربته.

والشاهد الفاضح أن الكل قد دعم واستثمر الجهاد التكفيري الإرهابي، بمختلف فصائله وأمرائه وجنوده ونجومه.. على المستوى الدولي كما على مستوى القوى الإقليمية، بسبب التماهي السياسي أو المذهبي مع "القاعدة" في مواجهة الاتحاد السوفياتي والنظام الأفغاني الذي كان تابعاً له يومئذ؛ ثم إيران وسوريا، أيضاً، بسبب التماهي الديني أو السياسي، في مواجهة الأميركان في العراق ولبنان.

أخلص من ذلك إلى القول بأن الخطابات والأحاديث حول مصدر الإرهاب، الذي بات يقض مضاجع الجميع، تنطوي على الجهل بذات النفس أو على النفاق والخداع للذات وللغير، سواء صدر عن الذين يفاجأون به، أو عن الذين يتنصلون من المسؤولية لرميها على الآخر.

وبداية الخروج من النفق المظلم هي إعادة النظر في مشاريعنا الدينية وكسر منطق الفتاوى التكفيرية، للعودة إلى منطق الدولة الوطنية المدنية، العابرة للأطر التقليدية، بدستورها وقوانينها وأنظمتها التي ترعى حقوق الطوائف وتضع حدا لحروبها الأهلية.

فتحية في هذا الخصوص إلى تونس وشعبها، فهي إذ كانت السباقة في شعلتها الثورية التنويرية، فقد أثبتت أيضا أنها السباقة في صياغة دستور مدني يحترم حرية الاعتقاد والضمير، ويمنع إطلاق فتاوى التكفير والتأثيم.

 

Email