مصر ما بعد الموافقة على الدستور

ت + ت - الحجم الطبيعي

رغم أن الموافقة على الدستور في مصر تعتبر خطوة هامة من استحقاقات خارطة المستقبل التي رسمتها السلطة بعد الثالث من يوليو 2013، إلا أن القراءة المتعمقة لمجريات الاستفتاء وما جرى بعدها، تشي بأن هذه الاستحقاقات لن تسير بشكل سلس. وربما أظهرت مجريات الاستفتاء عمق الانقسام الحاد في مصر، وهو انقسام تجاوز المواجهة بين الشعب وجماعة الإخوان المسلمين والموالين لها، وامتد لشرائح اجتماعية أخرى.

فمن أبرز الملاحظات التي ارتبطت بالاستفتاء على الدستور، ضعف المشاركة فيه نسبيا. والأمر الآخر تمثل في ارتباط المشاركة بشرائح اجتماعية معينة، أبرزها المرأة وكبار السن والمهمشون والأقباط.. وأخيرا، وربما كان الأمر الأكثر خطورة هنا، ضعف المشاركة الشبابية أو غيابها، أو ربما مقاطعتها لعملية الاستفتاء برمتها.

وهنا تبرز مجموعة من التساؤلات الهامة: لماذا اختفى الشباب من لجان الاستفتاء على الدستور؟ أين هؤلاء الشباب الذين صنعوا ثورة الخامس والعشرين من يناير وافترشوا الميادين في الثلاثين من يونيو؟ ولماذا آثروا الاختفاء والانزواء في هذه المرحلة؟ وهل اختفاؤهم مجرد آلية ثورية هادئة جديدة، أم أنها مرحلة لالتقاط الأنفاس قبل مواجهات عديدة قادمة في مصر؟

اللافت للنظر أن بعض وسائل الإعلام المصرية تناول غياب الشباب في مصر على استحياء، ربما خوفا من الاقتراب من هذا الموضوع البالغ الحساسية، وربما إصرارا منها على تشكيل صورة للاستفتاء مغايرة للواقع. الواقع أن مسألة غياب الشباب المصري عن الاستفتاء، لها العديد من الأسباب الخطيرة التي تعكس قدرا ما من التحول في الرؤى لدى السلطات المصرية..

وقدرا آخر من اللخبطة السياسية والتسرع في مواجهة كافة القوى السياسية المختلفة. كما أن وسائل الإعلام المصرية، الخاصة منها بشكل رئيسي، قد أساءت إلى السلطة السياسية في مصر من حيث لا تدري، وهى تحاول بشكل ضارٍ مساندتها من خلال النيل من الآخرين.

ومن عجائب الأمور أن هؤلاء الآخرين كانوا في الكثير من الأحيان من شباب الثورة ووقودها الجاهز للدفاع عنها، وهم من تلقوا الرصاص في ميدان التحرير، سواء أثناء ثورة الخامس والعشرين من يناير أو أثناء خروجهم في مواجهة المد الإخواني وحركات التأسلم السياسي في الثلاثين من يوينو وما تلاها من أحداث. هؤلاء، وهم شباب بالغ الحساسية تجاه الأحداث..

وجدوا أنفسهم في مواجهة إعلام لا يرحم، يتهمهم بالعمالة والخيانة والرغبة في تدمير البلد وإضعاف اقتصادها. بل إن هؤلاء الشباب وجدوا أنفسهم مطالبين بالدفاع عن ثورتهم الأصيلة، الخامس والعشرين من يناير، في وجه إعلام غادر يتنكر لها ويفاضل بينها وبين الثلاثين من يونيو، ويخلق حالة غير مبررة من القهر النفسي والضغط المعنوي على هؤلاء الشباب.

والغريب في الأمر أن هؤلاء الشباب الذين نزلوا في الخامس والعشرين من يناير، هم أنفسهم أو على الأقل الكثير منهم، من نزلوا في الثلاثين من يونيو دفاعا عن ثورة يناير، ودفاعا عن مصر التي وجدوها تُسرق من خلال جماعة الإخوان المسلمين.

إن المجتمع المصري مجتمع شاب، تتجاوز نسبة الشباب فيه 40% من عدد السكان، وهى نسبة كبيرة جدا وخطيرة تعكس أهمية هذه الشريحة العمرية من شرائح السكان المختلفة، وهو أمر كشفته نسب الاستفتاء الأخيرة على الدستور، رغم الحشد الهائل لها. فكبار السن والمهمشون والأقباط لن يمثلوا تلك النسبة الكبيرة الضاغطة والمريحة لأي صانع قرار، في مواجهة نسب الشباب العالية القادرة حركيا على المواجهة والحشد والمناورة والتثوير.

الواقع أن السلطة في مصر مطالبة برد الاعتبار لهؤلاء الشباب، وعدم الفصل بين ثورة الخامس والعشرين من يناير وامتدادها في الثلاثين من يونيو، والتيقن التام من أن مصر لن ينصلح حالها فعليا وحقيقيا، إلا من خلال تلاحم وطني حقيقي يعكس التمايزات الفكرية والسياسية، ويقبلها بدون ضغط أو ملاحقة أو تشهير.. حمى الله مصر، وحمى شبابها الأوفياء.

 

Email