سلطة المعلومة وقوة العلامة

ت + ت - الحجم الطبيعي

كان "الأنبوب" أداة لتقدم علم الكيمياء، منذ العالم الفرنسي لافوازييه (1743 1794)، بل منذ جابر بن حيّان أحد ألمع العلماء الذين نبغوا في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية، وأهم عالم في حقل الكيمياء قبل العصور الحديثة.

واليوم أصبح "الحاسوب" "أداة مهمة لعلم الكيمياء بأهمية الأنبوب نفسه". هذا ما ورد في كلام اللجنة التي منحت جائزة نوبل في مطلع نوفمبر الماضي (2013)، لمن يستحقها من العلماء.

وبيان ذلك، بحسب التبرير الذي قدمته اللجنة، فإن "النماذج المعلوماتية" التي يتيح الحاسوب بناءها "باتت واقعية لأنها تحاكي الحياة الفعلية"، بقدر ما تتوقع نتائج الاختبارات التقليدية"، أي التي تجري في الأنبوب.

وبلغتي وتأويلي، لم يعد الحاسوب مجرد أداة لتخزين المعلومات حول الواقع، وإنما يتيح عبر أعمال الحوسبة والبرمجة، خلق نماذج أو تركيب سيناريوهات تحاكي الواقع بقدر ما تضاعفه، وتسهم في تغييره بقدر ما تعيد بناءه وتركيبه.

وفي هذا شاهد على ما للمعلومة من السلطة الفائقة، من حيث الإمكانات الواسعة التي يفتحها، عبر الواقع الافتراضي. بهذا المعنى فإن ما نخلقه عبر الحاسوب يصبح واقعياً أكثر من الواقع نفسه، بقدر ما يغدو وسيطاً ضرورياً لا غنى عنه من أجل فهم الواقع ومعالجته.

مثال آخر على سلطة المعلومة وفاعليتها، يقدمه العمل في مجال الأمن. ففي لبنان هناك "فرع للمعلومات" في وزارة الداخلية، يهتم بكشف الجواسيس أو بمعرفة مرتكبي الجرائم والاغتيالات.

هذا الفرع يتعرض للحملات والتهديدات من جانب دول وأحزاب وميليشيات تسعى إلى شلّ فاعليته، وقد نجحوا في اغتيال رئيسه، اللواء وسام الحسن في عام (2012)، ولكنهم لم يستطيعوا تعطيله، فما زال شغالاً وفاعلاً.

ولذا لم يتوقف الهجوم عليه من جانب من لا يريدون للبنان أن يعود إلى وضعه الطبيعي الآمن، بل هم يطالبون بحلّه، فقط لأنه قادر على كشف مرتكبي التفجيرات الإرهابية. وتلك هي سلطة المعلومة الفائقة، في مواجهة سلطة الدول والجيوش وأجهزة المخابرات والمنظمات الإرهابية.

بالطبع لا تقتصر فاعلية أنظمة المعلومات على مجال الأمن أو العلم، فقراءة المعلومات والتصرّف بها، من على شاشة الحاسوب، باتت ضرورية لإدارة الأعمال في مختلف المجالات، فلا عمل أو نشاط ينجح، اليوم، من دون الوسيط المعلوماتي، الذي يغير بوقائعه بنية الواقع وطريقة التعامل معه، مما يعني أنه لا سبيل لمعرفة الواقع على نحو مطابق، أو لإقامة علاقة مباشرة، من غير وسائط، أكان الوسيط الشاشة ومعلوماتها، أو اللغة وعلاماتها، أو أي وسيط آخر.

بهذا المعنى فالواقع هو ما نحسن تركيبه وبناءه أو خلقه وتغييره، عبر ما نخترعه من الأدوات والوسائط أو الأجهزة والمؤسسات أو الرموز والعلامات.

هل يعني ذلك أن العلامة لا تفعل أو تؤثر إلا بصورة إيجابية؟

قطعاً، لا. فالمعلومة شأنها شأن سائر الأشياء، يمكن أن تستخدم على الوجهين، إيجاباً كما في مجال العلوم والمعارف، أو سلباً كما توظفها دوائر التجسس أو المنظمات الإرهابية والمافيات المالية.

ولا تقل قوة الحرف عن قوة المعلومة. على سبيل المثال، يُلاحظ صاحبي أنني كتبت على صفحة الغلاف تعريفاً بكتابي الجديد، عبارة "يدور على الأزمة العالمية"، فأسرع يُنبّهني على سبيل التصحيح، بقوله إن الأصح هو القول: "حول" وليس "على".

فكان ردّي أن ما من أحد معصوم من الخطأ، وأنا أعيد قراءة كتبي بعد طبعها فاكتشف أخطاء في النحو والإملاء، أو في الصرف والتركيب وأقوم بتصحيحها. ثم أضفت قائلاً: سوف أنظر في الأمر في ما يخصّ استخدام "حول" بدلاً من "على".

وبعد أن تفكرت في المسألة أبقيت على عبارتي كما هي: "يدور على الأزمة"، ولم أغيرها. ومسوغي لذلك أن كلمة "على" أقوى وأبلغ في الدلالة من كلمة "حول"، فهذه تستخدم للأشياء المادية، كأن يقال يدور حول البيت أو حول المدينة.

أما في القضايا الفكرية، فالأولى استخدام حرف "على"، كما فعلت على غلاف كتابي، لأن المدار والمآل في هذه الحالة هو الاشتغال على الموضوع أو المسألة بالدرس والتحليل، على سبيل المقاربة والمعالجة.

والموضوع لا يفهم إلا بعد إشباعه بحثاً لإعادة بنائه، والمسألة لا تعالج إلا بعد تشريحها وتفكيكها من أجل تركيب حلّ لها، وهذا شأن كل موضوع نشتغل عليه أو ننشغل به، بما يتطلبه ذلك من الكدّ والعناء أو المعاناة والمكابدة.

ولعلّ هذه حالي مع ما كتبت، فقد حاولت الاشتغال على الأزمة بالتشخيص والفهم والمعالجة، بالطبع على مستوى الفكر، فكدت أكون ضحيتها، من فرط هواجسي التي تقودني إلى المراجعة والتنقيح أو التبديل والتغيير، في الصياغة، مرة بعد مرة، الأمر الذي أرهقني، حتى خشيت أن ترتدّ الأمور ضدّي فتهزمني "الأزمة" قبل الانتهاء من معالجتها.

ولعله من هذا القبيل، يقال: وعلى الباغي تدور الدوائر. ولسان حالي، في ما أنا بصدده، وعلى الباحث عن الحقيقة تدور الدوائر، إذ سيضل عنها ولا يصل إليها، لأن الحقيقة هي ما نخلقه وننجزه من التفاسير والنماذج.

وعلى كل، فنحن أمام مثال على أن الخلاف حول المسائل اللغوية، سواء تعلق الأمر بالحروف أو بالكلمات أو بالتراكيب، أمر يصعب حسمه والوصول فيه إلى حقيقة نهائية أو إلى يقين آمن.

ومن المعروف، في تاريخ النحو العربي، أن هناك عالماً مات وفي نفسه شيء من "حتى"، أي لم يستنفد وجوه البحث في استخدام "حتى"، مما يدلّ على ما لهذا الحرف من القوة والفاعلية، في بناء المعنى وترتيب الكلام واستواء العبارة.

وأنا أعتقد أنني لو كنت أكتب على طريقة الأصوليين من النحاة، بقواعدهم الجامدة وقوالبهم الضيقة، لما جدّدت في أسلوب الكتابة، ولا حتى في مسائل المعرفة. والأسلوب لا ينفك عن المفهوم، كما لا ينفك المعنى عن المبنى.

 

Email