إنسانيتنا وأفكارنا المستهلكة

ت + ت - الحجم الطبيعي

مع مفتتح هذا العام، إذا كان لي أن أعود إلى العام الذي ولّى، على سبيل التذكرة والعبرة، فإني أتوقف عند بعض الأحداث أو الأعمال التي تستحق أن نعلق عليها، من حيث دلالتها على ما آلت إليه الأحوال والمصائر في المجتمع الإنساني..

لقد شكل انتخاب بابا أرجنتيني على رأس الكنيسة الكاثوليكية، تحت اسم "فرانسوا"، حدثا بارزا من أحداث العام المنصرم. ليس فقط لأنه أول من يعتلي سدة البابوية من خارج أوروبا، بل لأن مجيئه أحدث انقلابا في النظرة والنهج والأسلوب، طال صورة الكنيسة ودورها والقضايا التي تهتم بها، وطريقة تعاملها مع رعاياها.

فالبابا الجديد فاجأ الأوساط الدينية والعالم، بتواضعه وبساطته ونزوله إلى الشارع، ليتحدث إلى المؤمنين كواحد منهم يرعاهم ويهتم بشؤونهم. وبذلك خرق التقاليد الراسخة، ونزع هالة القداسة عن الكرسي الرسولي لكي يُنزل الكنيسة من عليائها وعزلتها إلى أرض الواقع.. ولذا استحق لقب "شخصية العام".

وما يلفت في خطابات البابا ومواقفه، هو تشديده على المسألة الاقتصادية. وقد ذهب في هذا الخصوص إلى أبعد مما فعله أسلافه، فوجّه نقدا عنيفا للنظام الرأسمالي، ونعته بأنه نظام وحشي يدمر إنسانية الإنسان، كقوله بأن الرأسمالية هي "ثقافة النفايات"، بمعنى أنها تستخدم البشر ثم "ترميهم" بعد أن تستهلكهم، والأحرى القول تهلكهم.

وكان من الطبيعي أن يتعرض البابا للنقد، وأن يتّهم من قبل اليمين المحافظ بأنه يساري الهوى، اشتراكي الميل. وهي تهم غالبا ما يتعرض لها رجال الدين، الذين يخرجون على الثوابت المتحجرة والتقاليد المعيقة.

ففي لبنان كان العلامة الراحل الشيخ عبد الله العلايلي يحاول إصلاح الحياة الدينية، فاتهم بالخروج على الإجماع والتقليد، بل هناك من وصفه بالشيخ الأحمر.. مع أن الدين، وكما جاء في الحديث، لا تستقيم أموره من دون علماء ينهضون بمهمة إحيائه وتجديده، بل وتحديثه. غير أن محاولات التجديد تلقى المعارضة من جانب القوى المحافظة، التي تقاوم الإصلاح كما يقاوم المريض محاولات علاجه!

وكانت الفتاة الباكستانية ملالا قد تعرضت للاعتداء، من جانب أعداء الثقافة والمعرفة، عقابا لها على ممارسة حريتها في التعبير وحقها في التعلم. وقد لاقى هذا العمل البشع الشجب والاستنكار في العالم أجمع. وبعد أن أتيح لملالا الخروج من سجن بلدها إلى رحاب العالم الأوسع، تحولت إلى نجمة عالمية تتحدث عنها كبريات الصحف، ويستقبلها الرئيس الأميركي أوباما في البيت الأبيض.

وهذا عمل جميل ورائع، ولكنه، للأسف، مجرد استثناء على القاعدة. فنحن نلجأ إلى الإدانة، فقط لكي نرفع المسؤولية عن أنفسنا، غير أننا ننسى أن آلاف الأطفال (11 ألف طفل) قد ماتوا في سوريا تحت التعذيب أو بالقنص والقصف، على مرأى ومسمع من العالم وقادته، ولا من مجيب أو مساعد أو متدخل. وإذا كان الشاعر قال بعد نكبة فلسطين عام 1948:

قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر

وتشريد شعب آمن مسألة فيها نظر

فلسان حالنا اليوم؛ الناس تستفظع الاعتداء على طفل واحد، فيما هي تسكت على قتل آلاف الأطفال. فيا لإنسانيتنا العاجزة والمفلسة. ومع ذلك، فإن بعضنا ممن أفنوا أعمارهم في النضال من أجل تغيير المجتمعات العربية نحو الأفضل، يتساءلون من أين يأتي كل هذا التوحش الذي يفاجئ ويصدم؟

بذلك يشهدون على جهلهم بذواتهم وبالواقع، لأن مصدر التوحش هو أفكارنا وثقافتنا ومجتمعاتنا. إنه حصيلة الذات المتألهة، والأنا النرجسية، والنفس الأمارة، بقدر ما هو حصيلة منطق الإقصاء والاستئصال الذي يتحكم في العلاقات بين الناس، ولو كانوا أشقاء وإخوة..

وهو حصيلة عقلية الاحتكار والمصادرة والتكالب والجشع، في ما يخص السلطات والثروات، مادية أم رمزية، بقدر ما هو ثمرة جهلنا بالمجتمعات التي أردنا تغييرها بأفكارنا المستهلكة حول الحرية والعقلانية والاستنارة والإنسانية، والتي لا تترجم إلا بأضدادها على أرض الواقع، فسادا أو استبدادا أو توحشاً.

ومن الأحداث البارزة في العام الفائت، تجسس الولايات المتحدة على حلفائها، بعدما كشف الفضيحة الأميركي إدوارد سنودن.

وإذا كان التجسس أمرا شائعا بين الدول، بالأمس واليوم، فإن الفضيحة هي أن أميركا توظف الاختراعات التقنية للتجسس على الدول الأوروبية، لمعرفة أسرارها وما تريد إخفاءه. ليس هذا وحسب، بل هي تتنصت على هواتف الرؤساء والقادة.

وتلك فضيحة الفضائح على المستوى الخلقي: فالحليف لا يأمن لحليفه، والصديق لم يعد يثق بصديقه، مما يدل على هشاشة القيم، وعلى أن الإنسان بات أسيرا لأهوائه وهواجسه ومطامعه، أكثر من أي يوم مضى.

وإذا كانت الهشاشة هي التي تفسر كيف أن الصديق قد ينقلب إلى عدو، فهي التي تفسر أيضا العكس: سهولة تحول الخصم أو العدو إلى حليف أو صديق.. ولعل هذا ما حصل بعد الاتفاق بين أميركا وإيران.

ولا غرابة في هذا التقلب في المواقف والعواطف بين الضدين، لأن هناك في الأصل ما يجتمع عليه الأضداد في هذا العصر: تواطؤهم على إحداث الخراب، كما تشهد مواقف الأعداء والأصدقاء من المأساة السورية. ومع ذلك لن نيأس، فثمة أمل كما تشهد نماذج المقاومات السلمية المدنية في مجال الحقوق والحريات..

ففي أميركا، من كشف فضائح التجسّس هو أميركي. وفي روسيا هزمت الناشطة ناديا تولونيكوفا، القيصر (بوتين) الذي سجنها. وفي سوريا انشقت الإعلامية علا عباس عن النظام، كي لا تصبح شريكة في قتل الأطفال، كما روت في كتابها "ثورة امرأة".

وفي إيران كُسِرت عقلية المعاندة والاستبداد، على يد القوى الإصلاحية والمدنية بقيادة حسن روحاني. وفي العالم العربي لاعودة إلى الوراء، ما دامت الشعوب العربية قادرة، بقواها الحية وطاقاتها الخلاقة، على ابتكار أساليب جديدة لمجابهة أنظمة العجز والفساد والاستبداد.

 

Email