الديمقراطية في جنوب شرق آسيا

ت + ت - الحجم الطبيعي

من الواضح أن موجات التحول الديمقراطي التي شملت أميركا اللاتينية في ثمانينيات القرن الماضي، والاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية في تسعينيات القرن نفسه، والربيع العربي الآن.. لم تمتد لتشمل دول جنوب شرق آسيا حتى الآن. كما أن هذه الدول لم تصبها عدوى الديمقراطية التي أصابت بعض دولها، فسنغافورة لم تتحرك بعيداً عن نظامها الذي يهيمن عليه حزب واحد، بعد أن قامت الفليبين بثورتها الديمقراطية عام 1986، كما أن بورما لم تتزحزح عن نظامها العسكري، بعد أن بدأت تايلاند تحولها نحو الديمقراطية عام 1988.

وترتبط بذلك مجموعة هامة من التساؤلات حول الدول التي ما زالت تراوح مكانها بالنسبة لتحقيق الديمقراطية بشكل عام، وبالنسبة لدول جنوب شرق آسيا بشكل خاص. وتشمل هذه التساؤلات: هل الأمن الاقتصادي أكثر أهمية من توسيع دائرة الحريات في جنوب شرق آسيا؟ أم أن كليهما، الأمن الاقتصادي والحريات السياسية، يشتملان على القدر نفسه من الأهمية بالنظر لتطور هذا الجزء الحيوي من العالم؟

وهل يتطلب التحول السياسي في دول جنوب شرق آسيا التبني الكامل للنموذج الغربي؟ أم أن هناك منطقة وسطى بين الاستبداد والديمقراطية، يمكن أن تقف عندها هذه الدول بما يحقق نموذجاً جديداً للتحول السياسي في هذه المنطقة الحيوية من العالم؟

المشكلة هنا في هذا التحول المزدوج، الذي يشمل كلاً من الإصلاح السياسي والإصلاح الاقتصادي، هي أنه يبدو كما لو كان متعارضاً ومضاداً لبعضه البعض، فالأول ينتج ديناميات قوة جديدة، بينما ينتج الثاني طبقات جديدة مستفيدة على حساب طبقات أخرى مستبعدة، وعلى رأسها الصفوات التقليدية.

ويواجه البعض هذه المسألة، مثل فيتنام، عن طريق التحول نحو اقتصاد السوق بشكل كبير بعد عام 1986، الأمر الذي قلل الفقر بين السكان بدرجة كبيرة، بينما احتفظ الحزب الحاكم والوحيد بسلطاته حتى الآن. كما أن التحول من سلطة الجيش العسكرية إلى المجتمع المدني مرة واحدة، يبدو صعباً جداً، ويؤدي إلى العديد من المشكلات، مثلما الحال في بورما التي يهيمن فيها الجيش على مقاليد البلاد منذ عقود عديدة.

وتبدو صعوبة هذا التحول بالقياس لما حدث من تحول عسكري إلى مدني، في كل من تايلاند وإندونيسيا، وهو تحول ما زال لم يصل لمرحلة الاكتمال حتى الآن، خصوصاً إذا ما وضعنا في الاعتبار أهمية تدخل الجيش في الصراعات الاثنية في هذه الدول، وعلى رأسها بورما وإندونيسيا والفليبين.

وتتفاوت الدول الآسيوية في ما بينها، بالنظر لدور الطبقات الاجتماعية ووضعها مجتمعياً حسب نوع النظام. ففي إندونيسيا، على سبيل المثال، يبدو أن هيمنة نظام سوهارتو لثلاثة عقود متتالية، قد دعم دور الجيش وعلاقاته البيروقراطية مع جهاز الدولة ورجال الأعمال، وهو ما أضعف قدرة المعارضة على المقاومة والتغييرات السياسية المناسبة.

من هنا، فإنه من الأهمية بمكان التعرف إلى دور الجهاز السياسي للدولة ونوعيته، في السماح للطبقات الاجتماعية المختلفة بالقيام بأدوارها السياسية، التي قد تكون معارضة لجهاز الدولة وراغبة في تغييره. وعندما تكون الصفوة قوية ومتحدة وغير راغبة في التغيير، نظراً لأن النظام السياسي يدعم مصالحها، فإن التغيير يأتي في هذه الحالة من خارج الدولة، وليس من داخلها، عبر تدخل دول أخرى لها مصالح في إحداث هذا التغيير.

وعموماً، يمكن القول بأنه كلما نضجت الديمقراطيات في جنوب شرق آسيا، فإن السياسة سوف تتحول من الجوانب الشخصية الفردية القائمة على فرد أو صفوة محدودة، إلى سياسات مُلزمة للجميع. فالواقع الراهن لدول جنوب شرق آسيا، يثبت بما لا يدع مجالا للشك، أن شرعية الأداء للزعماء تفوق بدرجة كبيرة حتى الآن شرعية الصندوق الذي ينقلب عليه الناخبون بسهولة ويسر.

فالديمقراطية لم تتعمق بعد في هذه الدول المتفاوتة في ما بينها اقتصادياً وسياسياً، وهو أمر لا يعني أن الديمقراطية تمثل رغبة مُلحة لشعوبها، على الأقل مرحلياً، بقدر ما يعني أنها مسألة مؤجلة في الكثير من هذه الدول، خصوصاً في ظل الهيمنة الصينية القادمة، والقائمة على هيمنة الحزب الواحد، والكاريزما السياسية.

فالصين سوف تكون اللاعب الرئيس والمهيمن في المنطقة، وهي التي سوف تحدد شكل التحول الديمقراطي وحجم انتشاره. ولن يتم ذلك فقط من خلال تدخلها في شؤون الدول الأخرى اقتصادياً، وربما سياسياً، بقدر ما سيتم من خلال شكل التحولات التي سوف تحدث في الصين ذاتها، وطبيعة القوى السياسية فيها، ومدى قبول الحزب الحاكم فيها بالتعددية السياسية، مثلما قبل بالانفتاح الاقتصادي.

 

Email