الصفقة والصفحة.. العرب على المحك

ت + ت - الحجم الطبيعي

غالباً ما تكون الاتفاقات التي تجري بين الدول، أو على مستوى دولي، مادة للتفسيرات المتباينة، حتى ولو كان الاتفاق واضح البنود أو مصاغاً صياغة نهائية، فكيف إذا كنا إزاء اتفاق أولي، كالاتفاق الذي عقد بين إيران والدول الست، بشأن البرنامج النووي، إذ هو يشكل مرحلة انتقالية لاختبار النوايا بين الطرفين المتنازعين.

وهكذا، فإن الحاجة إلى عقد اتفاق بين الجانبين، مع بقاء مسائل عالقة لم يبتّ في أمرها، جعل صيغة الاتفاق غير مبرمة، أي قابلة للقراءات المتضاربة. فالأميركيون والأوروبيون، شددوا على أن الاتفاق يضع نهاية للبرنامج النووي العسكري. ليس هذا وحسب، بل هو يضع التخصيب لأغراض سلمية تحت المراقبة.

أما الإيرانيون، فقد سارعوا منذ الإعلان عن الاتفاق الملغوم، إلى الكلام على النصر الذي حقّقوه بصبرهم وصمودهم، إذ انتزعوا من الهيئة الدولية للطاقة، الاعتراف بصورة نهائية بحقهم المطلق في التخصيب النووي، فضلاً عن الإفراج عن بعض أموالهم المجمّدة في المصارف الغربية.

ولا أعتقد أن الكلام عن النصر يعبّر عن حقيقة ما جرى، فالتنازلات كبيرة، إذا صحّ أن الاتفاق ينص على وقف التخصيب لأغراض عسكرية، فيما النتائج هزيلة: الحصول على بضعة مليارات من عشرات مليارات الدولارات المجمدة على سبيل العقوبة.

الأرجح أن إيران التي غرقت في أزمتها الاقتصادية الخانقة، وجدت نفسها مكرهة على كسر المحرّم الذي تعيشت عليه طويلاً، ما جعلها تُقدم على فتح الصفحة وتوقيع الصفقة مع الشيطان الأكبر، بعد عقود من التهويل الإيديولوجي والتهديد العسكري والضجيج الإعلامي. هذا، مع أن أزمة إيران لا يفسرّها فقط صرف الأموال الطائلة على برنامج نووي عسكري سوف يتوقف، بل أيضاً هدر الثروات من غير طائل، من أجل تصدير العقيدة والثورة والبحث عن دور استراتيجي في المنطقة.

قد يُقال، على سبيل الاعتراض، إن أوضح دليل على انتصار محور المقاومة والممانعة، بقيادة طهران، هو أن إسرائيل تعارض أشد المعارضة الاتفاق الذي وصفه رئيس وزرائها بأنه "خطأ تاريخي". وما أراه هو أن ما تخشى منه إسرائيل، ليس البرنامج النووي العسكري الذي سيضع الاتفاق حداً له.

ما تخشاه الدولة العبرية هو أن تفقد دورها كجيب غربي في الشرق، وأن يُستغنى عن خدماتها في منطقة الشرق الأوسط. والسبب هو أن الحروب بين العرب وإسرائيل، التي استنزفت طاقة المجتمعات العربية، لم تعد تحتل الأولوية، مع نشوء معطيات جديدة تتغير معها قواعد اللعبة والخرائط السياسية والاستراتيجية، في العالم العربي وفي العالم أجمع.

من أبرز هذه المعطيات، الحروب الأهلية العربية، وبالمقارنة، تبدو الحرب بين العرب وإسرائيل "نزهة"، أمام هول الحروب الطائفية الدائرة في المشرق العربي، بأشكالها الإيديولوجية والسياسية والعسكرية، لأن هذه، بوصفها حرباً داخلية، هي أوسع وأشمل، وهي أخطر وأدهى وأشد فتكاً، وأفدح ضرراً على المدى البعيد، كما تشهد تداعياتها وآثارها البليغة في تمزيق البلدان العربية التي تتخبط في أتونها. من هنا، تستأثر باهتمام الدول الفاعلة، أكثر بكثير من الصراع العربي/ الإسرائيلي.

لا شك أن الاتفاق بين أميركا وإيران، حول المسألة النووية، هو لمصلحة إيران والعالم أجمع، بمن في ذلك العرب بالطبع. هذا ما يفكر فيه عقلاء النوع الإنساني: كل وقف للأنشطة النووية، أكانت لأغراض عسكرية أو حتى سلمية، هو لمصلحة البشرية جمعاء.

وإذا كان ثمة خوف لدى العرب من الصفقة بين أميركا وإيران، لا سيما لجهة بنودها غير المعلنة، فهو أن تطلق يد النظام الإيراني في الإقليم العربي، بعد نزع أظافره النووية، ليفعل ما يشاء، كما تُرك النظام السوري، بعد تسليمه سلاحه الكيماوي، لكي يتابع بطشه بشعبه وتدمير بلده.

من هنا، فإن القيادة الإيرانية على المحك في ما يخصّ سياستها الإقليمية، هل تستمر على نفس النهج القائم على الاستقواء والتدخل وتأجيج النزاعات المذهبية والصراعات السياسية في الدول العربية ذات التركيب الطائفي المتعدد؟

إن العاقل المتدبر هو الذي يغير سياسته إذا انتهت به إلى الباب المسدود، كما هي النتيجة، سواء في الملف النووي أو في الدور الإقليمي. وإذا كانت إيران سعت إلى الخروج من مأزقها في الملف النووي، بفتح صفحة جديدة مع الولايات المتحدة، أساسها "الانخراط البناء"، بحسب مقولة الرئيس حسن روحاني.

وحسناً فعلت، فالأولى أن تراجع حساباتها، وتغير سياستها الإقليمية، لكي تفتح صفحة جديدة مع الجوار العربي والدول العربية عامة، تقوم على أساس اللقاء والحوار والمصالحة، والعمل على صوغ الأطر والقواعد التي تسهم في إعادة بناء الثقة بين الجانبين،..

وتوسيع مجالات المصالح المشتركة، ومساحات العيش معاً. من غير ذلك تحلّ إيران، بوعي أو بغير وعي، محل إسرائيل في تخريب البلاد العربية، باستنزاف طاقاتها وعرقلة تقدمها. وأنا لا ألوم إيران أو أميركا أو روسيا، التي تتخذ من العالم العربي ملعباً لصراعاتها المدمرة، أو موقعاً لتنفيذ استراتيجيتها القاتلة، كما جرت الأمور حتى الآن، سواء بدعم الأنظمة الديكتاتورية أو المنظمات الأصولية الإرهابية..

. وهنا، المسؤولية الجسيمة الملقاة على عاتق الدول العربية، وعلى كل من يعنيه المصير العربي مشرقاً ومغرباً، بحيث لا يبقى العالم العربي ملعباً للصراعات الدولية والإقليمية، أو كعكة يتقاسمها المتكالبون على الثروات والمواقع، أو هدفاً يصوب عليه الموتورون الذين لا يريدون أن تقوم دول عربية، منتجة، غنية، بناءة، فعالة، على مسرح الأمم.

هذا الوضع المقلق، يدعو إلى إعادة النظر في الأطر والمفاهيم والقواعد التي يدار بها، حتى الآن، العمل العربي المشترك، بحيث يتم تخيل استراتيجيات جديدة تجترح معها إمكانات غير مسبوقة للتفكير والعمل والتدبير، وبصور تخرج المجموعة العربية من عجزها، لتتحول إلى لاعب فاعل في تغيير قواعد اللعبة ورسم المصائر، على قدم المساواة مع بقية الدول الفاعلة.

إن العالم العربي الآن على المحك، فوضعيته تشبه وضعية أوروبا الخائفة أو العاجزة عن مواجهة التحديات والتحولات. وكما أنه لن تكون هناك دول أوروبية غنية أو قوية في اتحاد أوروبي ضعيف، فلن تكون هناك دول عربية قوية، في عالم عربي ضعيف.

 

Email