الفرار من العالم العربي

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا يمكن إنكار مشاق العيش في العالم العربي، مقارنة بغيره من المناطق الأخرى. ولا تعود تلك المشاق فقط إلى الصعوبات الاقتصادية التي تواجه ملايين المواطنين في الكثير من دول المنطقة، بقدر ما تعود أيضاً للمشاق الاجتماعية والسياسية التي تكتنف الحياة اليومية للمواطنين. وما نعنيه هنا ليس رفاهية البعض مادياً مقارنة بالبعض الآخر، بقدر ما نعني السياق العربي العام المشمول بكافة أشكال التوتر والصراع السياسي والاجتماعي.

وبنظرة سريعة هنا، تمكن المقارنة بين حال المواطن الآسيوي أو المواطن الأميركي اللاتيني، ناهيك عن المواطن الأوروبي أو الشمال أميركي، مقارنة بحال المواطن العربي. فالأخير مهموم بالسياسة والصراع العربي/ الإسرائيلي، والخطابات الدينية المتأججة، والعادات والتقاليد والبنيات الأبوية الخانقة، والموقف الجامد من المرأة، إضافة إلى الخناق الاقتصادي المتصاعد والتبعات المرتبطة به.

وتمكن ملاحظة ذلك من خلال رغبة الملايين من أبناء العالم العربي في الهجرة لأوروبا والولايات المتحدة الأميركية وكندا، وغيرها من دول العالم المتحضر الأخرى. فحلم الملايين من الشباب الآن يقف على أعتاب السفارات الأجنبية في بلدانهم، آملين الحصول على مخرج من جحيم المنطقة ومستقبلها الأكثر غموضاً وكآبة.

والسؤال المهم هنا يرتبط بالأسباب العامة والمشتركة المتعلقة بتراجع رغبة العيش في المنطقة، والجهد الهائل الذي يبذله الشباب والكبار على السواء للفرار منها والهجرة إلى أي من دول العالم الأخرى؟

واجه المواطن العربي منذ منتصف القرن العشرين وحتى الآن، خطابات عدة مثيرة للشجون، تتحدث عن الوطن وقيمته وأهمية الذوبان فيه والإخلاص له؛ فكتب التاريخ تجعل من الوطن قيمة أبدية مقدسة نقدم له الغالي والرخيص. وفي معظم الأحيان تماهى الوطن ضمن جهاز الدولة السياسي، الذي استأثر بكل شيء وقسم المجتمع شرائح وطبقات وقبائل وعائلات، وفقاً لأهوائه ومصالحه الضيقة والعقيمة..

وهو أمر أفضى بالدولة ـ الوطن إلى حالة من الاحتقان السياسي والاجتماعي، أفضت بدورها إلى نتائج كارثية تجلت مظاهرها في ما نراه الآن في دول الربيع العربي وغيرها من الدول العربية الأخرى، وما هو متوقع ومنتظر من مشكلات وصراعات قادمة في دول أخرى.

وهذا التماهي بين الدولة ـ الوطن أنتج مستويين من المواجهة السياسية، أولهما يتعلق بالصراع السياسي الاجتماعي المباشر، وثانيهما يتعلق بحياد المواطن المطلق وطلاقه للسياسة وعدم اعتداده بها.

وفي الحالتين، حالة الصراع السياسي وحالة الحياد السياسي، فقدت الدولة العربية نموذج المواطن المتطور سياسياً، والواعي أيديولوجياً، والمدرك لمعنى حقوق وواجبات المواطنة، مثلما يحدث في الدول المتقدمة فلا تجور الدولة على مواطنيها، ولا يسعى المواطنون للنيل من دولهم، سواء من خلال المواجهة السياسية المباشرة، أو من خلال اغتنام رغد العيش وما يرتبط به من انتهازية سياسية واقتصادية.

وفي الحالتين لم تكن علاقة المواطن بالدولة ـ الوطن علاقة سوية، بقدر ما كانت علاقة متوترة دائماً وصراعية في أحيان غير قليلة. وما يزيد الطين بلة، أن الدولة لم تكف لحظة واحدة عن إشاعة خطابات الانتماء وحب الوطن، سواء من خلال الأغاني الوطنية أو المناسبات التاريخية المختلفة أو الاحتفالات العديدة، المرتبطة بإحياء ذكرى زعماء حقيقيين أو متوهمين. فلا توجد أمة في العالم لديها ..

هذا الكم من الأغاني الوطنية مثل أمتنا العربية، ولا توجد أمة تُمتهن فيها كرامة المواطن في الألفية الثالثة مثل أمتنا العربية. وعلى ما يبدو فإن هناك علاقة طردية مؤكدة بين تزايد وتصاعد حدة الخطابات الوطنية، وبين تراجع الاهتمام بالفرد المواطن/ التابع.

ومن مفارقات القدر أن هذا الضغط السياسي، المرتبط بخطاب الوطنية الفارغ من المضمون الفعلي والحقيقي، جاء مترابطاً مع هيمنة البنيات الاجتماعية المحافظة الجاثمة على عقل ونفس المواطن العربي. فما إن يهرب المواطن العربي من هيمنة خطاب الدولة، وما إن يحاول أن يجد لنفسه فرجة من الراحة في رحاب الأسرة أو العائلة أو الجماعة أو المسجد أو الكنيسة، حتى يجد تكتلاً ضاغطاً آخر يتعلق بالقيم التقليدية الأبوية المحافظة المتعالية التي تمنح نفسها حق تقرير الصحيح والخاطئ والمقبول والمرفوض اجتماعياً.

وإذا كان الحقل السياسي يتمتع بمرونة ما تسمح للفرد بالانفلات من قيوده، فإن التقاليد الاجتماعية صارمة في قيودها، وتتبعها ورقابتها لأفراد المجتمع. صحيح أن تلك القيود تتفاوت من مجتمع لآخر في عالمنا العربي، إلا أن العرب جميعاً سواء في هيمنة العادات والتقاليد والقيم الاجتماعية الضاغطة. وتزداد الأزمة حينما تتشح تلك الضغوط بمسحة الدين، وتمنح نفسها نقاء أبدياً يمنحها الحق في حساب المواطن..

وربما شرعنة التخلص منه! وفي الحصيلة يعاني المواطن العربي من تشكيلة فريدة من الحصار والمتابعة والقهر، تشمل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والديني والقيمي، وهو ما يفسر سر تلك الرغبة المحمومة للهجرة من عالمنا العربي، حتى ولو على قوارب الموت!

 

Email