أميركا تتخلى عن زعامة العالم

ت + ت - الحجم الطبيعي

امتطت الولايات المتحدة الأميركيةوروضت النمر البري العالمي، وما يُمثّله من مخاطر تهدد العالم، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ورحلة الركوب المحمومة تلك كانت خطيرة بالنسبة لأميركا، لكنها كانت نعمة للبشرية. وقد جرى في الوقت نفسه تحريف الدور القيادي للولايات المتحدة، وأسيء تفسيره في الخارج والداخل، بما في ذلك من قبل قادة أميركا. وبناء على ذلك، فإن رئيسنا الحالي، باراك أوباما، قرر أن يترجل عن ظهر النمر، ويتخلى عن لجم المخاطر العالمية، مع ما يترتب على ذلك من انطلاق النمر منفلتاً.

وكان إنجاز السياسة الأميركية الأكبر في مرحلة ما بعد الحرب العالمية، هو هزيمة الشيوعية السوفييتية. وبعد انهيار جدار برلين عام 1989، استهدفت أميركا إيجاد "نظام عالمي جديد". وكان من المفترض أن لا يكون هناك مكان، على الأقل نظرياً، لدكتاتوريين منشقين عن هذا النظام، مثل الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، والرئيس الصربي الأسبق سلوبودان ميلوسوفيتش. وبعد 11 سبتمبر أعلنت الولايات المتحدة "الحرب على الإرهاب"، وقادت جهداً دولياً لصد زعيم القاعدة أسامة بن لادن، وتنظيم القاعدة، والمتشددين الإسلاميين.

ورغم الحوادث المؤسفة العرضية، والنكسات، والاستراتيجيات الخاطئة، إلا أن الزعامة الأميركية ضمنت التجارة والسفر والاتصالات الحرة على الصعيد العالمي. وحيثما استطاعت، روجت أميركا لاقتصاد السوق الحرة والديمقراطية في الدول الاستبدادية.

وتمت طمأنة حلفائنا الرئيسيين، بريطانيا ودول الكومنولث السابقة، وأوروبا، واليابان، وكوريا الجنوبية، وإسرائيل، بشأن دعمنا الثابت لهم، وقد اغتنوا بذلك. والأعداء والمحايدون على السواء، افترضوا أنه ليس من الحكمة أن يكونوا على الجانب الذي يثير استياء أميركا، بقدر ما كان مفيداً لهم أن يكونوا على علاقة ودية معها.

لكن إدارة الرئيس أوباما، على ما يبدو، سئمت من النظام العالمي الذي أوجدته القوة الأميركية. ويبدو أوباما عازماً على أن لا تكون أميركا استثناء للقاعدة، وجهوده التي استمرت خمس سنوات تؤتي ثمارها الآن. والنتيجة هي أنه لا أحد يعرف أين سيندلع العنف الدولي التالي، ناهيك عن هوية الذين سيعملون على إيقافه.

وقد اختارت الولايات المتحدة، تلك القوة العظمى، أن تقاد في ليبيا من قبل بريطانيا وفرنسا، الدولتين الأكثر ضعفاً منها. والرئيس السوري بشار الأسد، تجاهل سلسلة من الخطوط الحمراء الأميركية. ورداً على ذلك، تعهد أوباما بالتدخل قبل أن يتعهد بعدمه، وفي النهاية نقل النفوذ إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بشكل من أشكال التعاقد من الباطن. وفي هذه الخطوة إلى الوراء، وفى بوعده لروسيا في مرحلة ما قبل الانتخابات، بأن يكون أكثر مرونة.

وتعاني هيبة الأمم المتحدة كثيراً من الطبيعة غير المنتظمة لإدارة أوباما، المؤيدة للمنظمة الدولية حسبما يفترض. فقد تجاوزنا قرارات الأمم المتحدة بشأن ليبيا، ولم نسع إلى قرار حتى حول سوريا، ونعمل على تقويضها الآن بشأن دول أخرى.

وتركيا، في ظل رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان الذي يزداد ميلاً لأسلمة البلاد، تعد أقرب إلى إدارة أوباما من إسرائيل التي تعتبر أفضل صديق لأميركا في الشرق الأوسط. وقد جاء الرئيس المصري السابق محمد مرسي المنتمي إلى الإخوان المسلمين، إلى السلطة في مصر بناء على ضمانات بالحصول على الدعم الأميركي، قبل أن يطيح به قادة الجيش المصري لانتهاكه الدستور.

وليس واضحاً لكل من اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية، أو حتى أستراليا ونيوزيلندا، ما إذا كانت لا تزال تحت المظلة الدفاعية الأميركية بشكل صارم.

وهناك أسباب كثيرة تدعو أميركا للقفز عن ظهر النمر، والتخلي عن المخاطر التي تهدد العالم. فبعد خمس سنوات من عجز شبه قياسي في الميزانية، تكافح أميركا مع أعلى مستوى من الديون كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، في الفترة التي تلي الحرب مباشرة. وهذه الحقيقة الكئيبة يدركها الحلفاء والأعداء على السواء، ويتوقعون أن يستدير الجيش الأميركي عائداً إلى الوطن.

وفي الخارج أيضاً، هناك العديد من الدول التي لا تثق بكلام أي رئيس أميركي. فأوباما مارس التضليل بشأن بنغازي، وتقلب وتخبط إزاء سوريا ومصر، وخدع الشعب الأميركي بشأن قانون تقديم الرعاية الصحية بأسعار مقبولة.

ونحن بالكاد نبدوا ذوي مصداقية أو مثيرين للذعر، عندما يتعين على وزير خارجية أميركا أن يؤكد للعالم أن العمل العسكري المقترح "سوف يكون محدوداً بشكل لا يصدق"، فيما يضطر رئيس البلاد لأن يشرح أن جيشنا لا يسبب "جروحاً طفيفة". وأوباما نفسه يبدو غير قادر على فهم تداعيات تنصت وكالة الأمن القومي على الهاتف الخليوي للمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، أو سماحه للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالفصل في الفوضى السورية.

وليس واضحاً ما إذا كان أوباما قد قدر حتى دور أميركا التقليدي في زعامة العالم، أو ربما يشعر بأن أميركا تفتقر إلى الضمانة الأخلاقية أو الموارد المادية، لمواصلة ركوب النمر العالمي وما يمثله هذا الأمر لجهة الاستمرار في لجم المخاطر التي تهدد العالم.

وأوباما يشعر بحق أن الأميركيين يبدون متعبين بالتأكيد، بعد حربي أفغانستان والعراق. ونحن على مشارف الاستقلال عن النفط والغاز المستوردين من الشرق الأوسط، ولم نعد نرى تلك الموارد مركزية لأمننا كما في السابق.

وركوب ظهر النمر، وما يمثّله من مخاطر، كان دوماً محفوفاً بالمخاطر، لكن ليس بقدر الترجل عنه والسماح له بالانطلاق منفلتاً. والعالم اليوم يريد من شخص ما أن يمتطي النمر مجدداً، لكنه غير متأكد من هوية هذا الشخص ومتى وكيف، وبأي ثمن!

Email