يا لها من آخرة.. القنبلـــــة والفضيحة

ت + ت - الحجم الطبيعي

باتت ظاهرة الهجرة المتعاظمة، وغير المنضبطة، مصدر قلق في أوروبا، سيما في فرنسا، حيث يخشى الكثيرون من الفرنسيين أن يصبحوا، ذات يوم، أقلية في بلدهم. من هنا يتجدد السجال ويحتدم، في فرنسا، بين الفترة والأخرى، حول هذه المسألة. وكان مانويل فالس وزير الداخلية الفرنسي قد فجّر ما سمته الصحافة قضية ليوناردا، بتصريحاته المتشددة ومواقفه العدائية من طائفة "الغجر" ومن المهاجرين بصفة عامة. ولذا فهو أصبح يحظى بشعبية كبيرة في فرنسا. هل لأنه عنصري؟ الأرجح عندي لأن الكثيرين من المهاجرين يمارسون خصوصيتهم الثقافية بصورة عنصرية أو استفزازية تحول فرنسا من مجتمع مدني إلى مجمع للطوائف.

وليوناردا هي فتاة غجرية تقيم مع أسرتها في باريس، وتتابع دراستها في إحدى ثانوياتها. وقد ارتأت السلطات الفرنسية طردها مع أهلها من فرنسا إلى البلد الذي أتوا منه (كوسوفو)، بحجة أنهم يقيمون بصفة غير شرعية. وفالس هو الذي اتخذ قرار الإبعاد بشأن عائلة ليوناردا، وقد أيده رئيس الجمهورية فرنسوا هولاند في ذلك، معتبراً أن القرار ينسجم مع القانون.

هذه القضية كانت بمثابة قنبلة، إذ أحدثت انشقاقاً في الرأي العام الفرنسي، بين مؤيد للقرار ومندد، بل فجرت الخلاف داخل الحزب الاشتراكي الذي ينتمي إليه الرئيس ووزيره. الأمر الذي حمل هولاند على تعديل موقفه، وصولاً إلى نوع من التسوية، بحيث يسمح للفتاة بالعودة إلى فرنسا لمتابعة دراستها ولكن من دون أهلها. والأعجب أن الغجرية استغلت أجواء الحرية التي ينعم بها المهاجر في فرنسا، لكي توجه إهانة للرئيس الفرنسي، بقولها إنها لن تعود إلى فرنسا من دون أهلها، بل ستعود إليها لكي تغير القانون.

المهم في الأمر، عند من يتأمل ويقارن، أن فتاة غجرية، قاصرة، تشغل فرنسا، بساستها ومثقفيها ومفكريها، بقدر ما تحثّهم على إعادة التفكير في مسائل الهوية والهجرة أو الحق والقانون.

وبالمقارنة ماذا يجري عندنا نحن الذين لا نتوقف عن مهاجمة الثقافة الغربية أو البلدان الأوروبية، حرصاً على ثوابتنا وقيمنا؟!

لنعد إلى بداية الزمن الحديث. فعندما استفاق العرب من سباتهم الحضاري، بفضل احتكاكهم بالغرب، طرحوا شعارات النهضة والإصلاح أو الاستنارة والتقدم، ثم تلتها شعارات التحرر الوطني والعدالة الاجتماعية أو الوحدة العربية، لكي ننتهي بشعارات الديمقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان.

ولكن ماذا حصل بعد كل هذه العقود الطويلة من الجهود الحثيثة من أجل مستقبل أفضل؟ باتت المجتمعات العربية فريسة للصراع الطائفي، حيث تدور حروب مذهبية ننزل معها إلى الحضيض الأسفل على المستوى الإنساني والخلقي، إذ يغذيها مخزون هائل من الأحقاد والضغائن، ويرتكب فيها من الفظائع والمجازر والاستباحات.

ولنتوقف عند لبنان، وبالذات عند مدينة طرابلس التي تشهد بين الفترة والفترة، اشتباكات مسلحة بين حيين مجاورين، تحيل الحياة في المدينة إلى جحيم، لا لشيء، إلا لأن هناك في الداخل والخارج من يريدون للبنان أن يبقى وطناً معلقاً يمنع من عودته إلى وضعه الآمن والمستقر. ولذا فقد زرعوا قنابل موقوتة في هذه المدينة أو تلك يفجرونها ساعة يشاؤون، لكي يكون لبنان ملعباً للتجاذبات أو ساحة لتصفية الحسابات أو مسرحاً لمشاريع أو مآرب، مشبوهة أو مدمرة، لهذا الداعية المشعوذ أو ذاك السياسي المنافق أو ذلك الصحافي المرتزق.

ومن أشنع ما يجري عمليات الخطف المتبادلة بين الطوائف أو من جانب الشبيحة والميليشيات، فضلاً عن المافيات المالية، وكما جرى بالنسبة إلى اللبنانيين الذين تمّ خطفهم في بلدة أعزاز السورية في مايو 2012. وقد بذلت لتحريرهم جهود هائلة وأموال طائلة شاركت في بذلها دول عربية وإقليمية طوال شهور، كان يمكن الاستغناء عنها أو صرفها على العمل الإنمائي أو الإنساني.

فيا لها من آخرة وصلنا إليها! لقد أصبح الهم والشاغل لدى الواحد ألا يقع ضحية الخطف أو التعذيب والقتل، أو أن يحرّر عندما يخطف لكي يعود كمن حقّق نصراً مظفراً أو كمن أنجز عملاً خارقاً.

والأخطر من ذلك أن الذين تحرروا من الأسر لم يطووا الصفحة ليتحرروا من عصبياتهم، بل كالوا الاتهامات لمن يعتبرونه خصمهم الطائفي والسياسي، مما يعقد المشكلة ويؤجج الذاكرة المسعورة. هذا في حين أن ما ينتظر، للخروج من المأزق، هو أن يستخلص الواحد الدرس، بكسر قوقعته الفكرية، لكي يعمل مع شركائه في الوطن والمصير، على إيجاد ما يحتاج إليه العيش المشترك من المساحات واللغات والقواعد.

ومع ذلك لن أيأس، فلبنان بالرغم من معاناته، لا يزال صامداً بنظامه. ذلك أن نظامه الديمقراطي، التعددي، الليبرالي، هو أقوى من الأنظمة الشمولية والأصولية التي تريد تعريبه أو أسلمته للقضاء عليه. ربما تكون الطبقة السياسية التي توالت على حكم لبنان، غير جديرة بنظامه، إذ هي أساءت إليه ولم تحسن تطويره.

مرة أخرى؛ لن أيأس لأن الثورات الجارية فتحت أمامنا أبواباً للحرية والتغيير لن تغلق. بالطبع لم تكن المجتمعات العربية ممالك للفضيلة. فبعد الثورات كشف الغطاء عما صنعه النظام السياسي والديني والثقافي من الشرور والآفات. ولذا، فالمهمة الملقاة على الجميع هي إعادة التربية والتأهيل، من أجل إعادة البناء على أسس جديدة بقيمها ومفاهيمها ونماذجها. وأياً يكن، فالشعوب العربية لم تخرج من سجونها لكي تقع مجدداً بين براثن الطغاة والمرشدين المتألهين أو الجلادين.

وإذا كانت الأنظمة الديكتاتورية قد تداعت، واحداً بعد الآخر، بعد أن وصلت إلى نهايتها الكارثية، فإن المشاريع الأصولية تكتب هي الأخرى نهايتها، فبعضها قد تساقط والبعض الآخر ينتظر السقوط، إذ هي أثبتت عجزها وإفلاسها، إذ هي لا تحسن سوى الانقلاب على دعواتها لتنتج المساوئ والمفاسد أو لكي تنشر الفضائح.

ولننظر فيما فعله شبان "الإخوان" من تلامذة المرشد في باريس. لقد حاولوا الاعتداء على الروائي علاء الأسواني لمنعه من إلقاء محاضرته في معهد العالم العربي. مثل هذا السلوك البربري يحصل لأول مرة في عاصمة فرنسا، كما علق الكثيرون على الحادثة. يا لها من آخرة شنيعة، أن نذهب إلى فرنسا لنمعن في تشويه صورتنا المشوهة أصلاً.

Email