ضد «الإخوان» وليس ضد مصر

ت + ت - الحجم الطبيعي

تسير مصر هذه الأيام في طريق مسدود سياسياً، وليس من بارقة أمل تلوح في الأفق رغم ما قد يروج له الإعلام المصري الذي ينتقل من موقف لموقف آخر بسهولة ويسر، ومن دون أي شعور بخطورة الموقف الراهن. كنا بالطبع، ومازلنا، ضد ممارسات الإخوان السياسية والقمعية وتصوراتهم الساذجة والضعيفة والمرتعشة لإدارة دولة بحجم مصر. فلم تنجح التجربة نهائياً وجلبت على مصر مشكلات فاقمت من الوضع الموروث مسبقاً، وزادت عليه حالة أمنية يومية لم نعتدها من قبل، ناهيك عما تواجهه سيناء من تشكيلات إرهابية بالمعنى الحرفي للكلمة.

لكننا حينما نقدنا الإخوان وسعدنا بأفولهم لم نكن نعني أن تقودنا تلك الأهواء السياسية التي لا ترى في الوضع الراهن المصري سوى الانقضاض عليهم وتصفيتهم سياسياً وأخلاقياً. وهو أمر انتهى بالمصريين الآن إلى قسمة مخيفة فأنت إما مع الإخوان أو ضدهم، وإما مع الأمن أو ضده، وإما مع السيسي أو ضده.

بل وصلت الأمور لأسوأ من ذلك، فأنت إما مع الإعلامية فلانة أو ضدها، وإما مع الإعلامي فلان أو ضده، وبالطبع سوف تظهر المزيد من الانقسامات في كل مؤسسات الدولة في الفترات المقبلة. هذه الحالة المخيفة من الانقسام سارعت من عبادة الأفراد في مصر، فلم يعد أحداً يهمه مصر ولا مستقبلها ولا كيفية خروجها من المأزق الراهن، فقط أصبحت المسألة مجتزأة في "أنا مع فلان أؤيده ولو حتى على جثتي". هكذا أصبحت النقاشات والحوارات والتحزبات في مصر الآن، حالة انقسام مخيفة وغير معتادة في الواقع المصري المعاصر.

ورغم ما يحاول البعض إظهاره على أنه انقسام بين من يؤيد مصر ومن يعارضها، فإن الواقع الراهن غير ذلك، هناك من يؤيد السلطة الجديدة بعد الثلاثين من يونيو وهناك من يحلم بعودة السلطة القديمة، ولا توجد أية محاولات لتقريب وجهات النظر والعمل من أجل لم شمل النسيج المصري مرة أخرى.

وسوف نضرب مثالين مهمين هنا أولهما يكاد يكون الحدث اليومي في الجامعات المصرية الآن، ألا وهو خروج شباب الإخوان في مظاهرات بعضها يتسم بالسلمية، والكثير منها يتسم بالعنف وعدم تقدير واحترام الحرم الجامعي، بل ويرتبط برغبة محمومة في وقف الدراسة وتعطيل العمل الجامعي. تعامل الإعلام بشكل حاد مع مظاهرات هؤلاء الطلبة، ناهيك بالطبع عن المواجهات الأمنية. لقد غلب الاتهام والنقد على الموقف، ولم يطرح أي عاقل أية محاولة للقاء هؤلاء والتواصل معهم والحديث عما يريدونه.

 

سوف يقول قائل، وربما يكون هذا صحيحاً إلى حد بعيد، إن هؤلاء لا يفهمون "دماغهم ناشفة" و"شوية صيع"، لن يقبلوا حواراً أو تفاهماً، هم يتبعون أجندات محددة لن يحيدون عنها قيد أنملة، يتلقون أوامرهم من قيادات الإخوان، الذين يمولونهم ويوجهونهم كيفما يشاؤون.

ربما يكون ذلك صحيحاً إلى حد بعيد، لكن الدولة ورموزها يحتاجون حلولاً عبقرية ومبتكرة للتعامل مع الطلبة على وجه الخصوص، والتفاهم معهم، وتقديم نموذج سلمي غير أمني، على الأقل إن لم ينجح، ربما يهز تصورات هؤلاء الشباب عن جماعتهم وعن تلك الأفكار الراكدة والعنيفة التي يلتزمون بها، ويدفعون حياتهم من أجل التعبير عنها. كما أنه، إن لم ينجح، سوف يقدم الدولة في صورة الباحث عن حلول غير أمنية، الدولة التي تحتضن أبناءها وتسعى للتفاهم والتواصل معهم.

المثال الثاني، الأكثر حدة لما يمور في مصر الآن، يتعلق بحلقة "باسم يوسف" الأخيرة. لقد اعتاد المصريون، على تلك الحلقات الكوميدية التي استخدمت من الرئيس السابق وجماعته مادة لمعظم حلقاتها، بشكل أسعد ملايين المصريين، وبشكل ربما لم يتعودوا عليه من قبل. لقد خلقت تلك الحلقات تياراً جديداً على مستوى العالم العربي من السخرية السياسية، نجح في فرض نفسه على ملايين المشاهدين العرب.

وكان السؤال الذي يطارد الكثيرين، قبل عودة تلك الحلقات: هل سوف يتسم البرنامج بالحيادية، ويتجاوز شخص محمد مرسي والإخوان لينتقد الواقع المصري الراهن؟ أم سوف يصبح امتداداً للإعلام المصري المرتبط بأجندات خاصة وضيقة جداً؟

الواقع أن الحلقة جاءت متوازنة بشكل كبير، وأهم ما فيها إعلانها في الجزء الأخير منها أنها وإن كانت ضد الإخوان وممارساتهم، فإنها ضد الفاشية الجديدة في مصر والقمع والممارسات الأمنية. بصريح العبارة إن الحلقة جاءت لتعلنها واضحة: إنها ضد عبادة الفرد وتقديسه!!

وهو أمر أغضب الكثيرين من المصريين الذين طُبعوا على عبادة الفرد وتقديسه. تحولت الحلقة لدى القراء والمتابعين لوسائل الإعلام المختلفة، وعلى رأسها الإنترنت: ماذا سوف يقول الفريق السيسي؟ وهل سوف يغضب الجيش أم لا؟ وهل سوف تستمر تلك الحلقات أم لا؟

لم يستطع الكثيرون أن يتجاوزوا تقديسهم للأفراد، ولم يستطيعوا أن يتجاوزا جماعة الإخوان، ولم يستطيعوا أن يتجاوزوا فرديتهم ليفكروا في الفضاء الأوسع الذي يشملهم، مصر!!

Email