سقوط العنوان ونهاية تسييس الإسلام

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم يكن عرب الجاهلية في غالبيتهم من أهل الكتاب، ثمّ جاءت الدعوة الإسلامية  كمتممة للديانة التوحيدية الإبراهيمية (بجناحيها اليهودية والمسيحية).

وقد استطاع العرب بفضل هذه الموجة الجديدة، الخروج من جزيرتهم وهامشيتهم، لكي يتصدروا العمل الحضاري لقرون طوال، مع بقية الأمم التي انخرطت في بناء الحضارة الإسلامية، ثمّ كان هناك ركود بعد الصعود. مقابل ذلك كان الغرب يشهد تحولات جذرية، عبرت عن نفسها بديناميكية وجودية خلاقة وموجة حضارية جديدة، افتتحت معها الأزمنة الحديثة.

وقد دخل العرب، كرهاً أو طوعاً، في العالم الحديث الذي أيقظهم من سباتهم الحضاري، وكان مصدر نهضتهم الحديثة بعلومه وقيمه ونظمه وأدواته. وهكذا كان العرب "جاهليين"، ليس بالمعنى السلبي، والجاهلية إنما امتازت باللغة الجميلة والمروءة المعجزة، بل بمعنى جهل الدين الجديد، ثم صاروا "مسلمين" بعد انخراطهم في المشروع الديني.

ثم انخرطوا في الموجة الحداثية، لكي يعيدوا بناء الذات والمشاركة في صناعة الحضارة تحت عناوين جديدة، ليست دينية ولا إسلامية، بل ذات هوية يختلط فيها القومي والإنساني والمدني. ولا ضير في ذلك، إذا شئنا أن نحيا حياتنا من دون عُقد الخصوصية وأفخاخ الهوية الدينية.

ولكن المحافظين الذين انبهروا بمنجزات الغرب وتأثروا بها، من غير اعتراف، قد وقفوا موقف السلب من الحضارة الحديثة، مؤثرين التشبّث بصيغة حضارية فقدت مصداقيتها، ولم تعد صالحة للبناء والإنماء، بل هي تزيد الأمور سوءاً والمشكلات تعقيداً.

الإسلام يبقى، بشعائره وقيمه، كما هي باقية سائر الأديان، بوصفه بعداً ثقافياً أو رأسمالاً معنوياً وخلقياً، يمكن للمؤمن استلهامه واستثماره في حياته وعمله ومساعيه.

أما استخدام الدين كمشروع للحياة والمجتمع والدولة وفق فهم جزئي مسيس، فلن يجلب سوى الضرر على الإسلام والخسران على المسلمين، بقدر ما يتحول إلى أداة للقبض على السلطة بأي ثمن، كما تشهد تجارب الأحزاب الإسلامية حيث حكمت أو سيطرت، في هذا البلد أو على تلك الساحة.

فهل نقارع الثقافة الغربية، كما ندعي زوراً وزيفاً، فيما نحن أصبحنا "غربيين" في كثير من أفكارنا وقيمنا وعاداتنا وأساليبنا؟ ربما كان بعض الغربيين هم الذين يريدون للعرب أن يتعلقوا بهويتهم الدينية على هذا النحو الجاهلي الذي ينتج المساوئ والكوارث..

كما يترجمه نجوم الإرهاب الذين يتقنون ممارسة العنف الفاحش، الأعمى والوحشي، ضد الأبرياء الآمنين بتفجيراتهم التي تطال دور العبادة والمراكز التجارية، أو التي تحدث في الساحات والأمكنة العامة. وقد بلغ العنف منتهاه، في الفترة الأخيرة، حيث تمّ قتل المئات وجرح الآلاف، في ثلاثة أيام متوالية، في نيروبي وإسلام آباد، فضلاً عن بغداد التي هي هدف دائم للتفجيرات المتواصلة، غزوة همجية تليها أخرى.

هل هي عودة الدين كما تنبأ قبل عقود الكاتب الفرنسي الراحل أندريه مالرو؟ ولكن يا لها من عودة مرعبة كما تشهد النهايات المأساوية والكارثية للعمل الديني!

لنحسن قراءة الواقع وتشخيص العلة؛ إن عنوان التدين السياسي لم يعد صالحاً للعمل الحضاري والمدني أو الإنمائي، سواء تعلق الأمر بحزب أو منظمة، بدولة أو جمهورية. بل إن العمل السياسي تحت يافطة الدين قد وصل إلى نهاياته البائسة والمدمرة، كما تشهد التجارب المريرة: فشل ذريع في مشاريع الإصلاح والتحديث والتطوير، تمزيق المجتمعات العربية عبر الفتن المذهبية، نشر الرعب في العالم عبر المنظمات الجهادية، التي تحول الإسلام إلى أداة لسفك الدماء ونشر الخراب.

ولهذا فالتحدي، إذا شئنا استخلاص الدرس والعبرة، هو خلع عباءة المرشدين والدعاة الذين تخرج من مدرستهم نجوم الإرهاب وأبطاله وجنده وشبابه، لكي نحصد كل هذه الدماء وكل هذا الدمار. الرهان عند من يعقل ويتبصر، أن ينشغل العرب بابتكار عناوين جديدة لحياتهم وهويتهم ومشاريعهم، تتيح لهم إعادة بناء الذات، لصنع الحاضر وشق دروب المستقبل، والمشاركة في صناعة الحضارة العالمية.

هذا ما فعله الغرب الحديث الذي ابتكر منذ عصر النهضة حتى اليوم، عشرات العناوين للعمل الحضاري، بقدر ما لا ينفك عن تجديد وتطوير فروع المعرفة وميادين العلم.

لا شك أن العصر الرقمي قد أسهم بشاشاته وشبكاته وأبجدياته، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، في خلق ظروف ملائمة لاندلاع الثورات العربية، عبر التظاهرات الحاشدة التي أفضت إلى سقوط غير نظام عربي، بوليسي أو ديكتاتوري، كما حصل في تونس ومصر وليبيا واليمن...

وامتداداً لذلك، فقد أسهم جيل العصر الرقمي في إسقاط الحكم الإخواني في مصر، بعد التظاهرات المليونية التي شهدتها القاهرة ومعظم المدن في 30 يونيو، تحت شعار "تمرّد".

فكانت تلك ضربة حاسمة تلقتها سلطة التدين السياسي، بصفة عامة، وبصرف النظر عمن يمثلها، سيما إذا عرفنا أن جماعة "الإخوان المسلمين" هي المدرسة الأم التي تخرج منها أو تأثر بها معظم الحركات والأحزاب الإسلامية في العالم العربي وخارجه. وهكذا فمع سقوط حكم "الإخوان المسلمين" يسقط مشروع التدين السياسي، وتنكسر شوكة السلطة باسم الدين.

وهذا ما أدركه الدكتور محمد بديع، المرشد العام للجماعة قبيل اعتقاله، إذ اعتبر أن الانقلاب على حكم الرئيس الإخواني محمد مرسي، هو بمثابة "هدم جدار الكعبة". إنه انهيار حلم إقامة دولة دينية إخوانية، بعد قرن من الدعوة والنشر والتعبئة والتنظيم.

وتصبّ في هذا الاتجاه نفسه، الآيل إلى زعزعة التسلط باسم الدين الذي ختم على العقول والأجساد، الكتاباتُ التي نقرأها على صفحات الفايسبوك، بما تنطوي عليه من نقد جذري وساخر لهذه السلطة ورموزها، من جانب أشخاص يوقعون بأسماء مستعارة. الأمر الذي يعوّد العقول المغلقة على أن تسمع ما يفاجئ ويصدم مفاهيمها ومسلماتها، علّها تستفيق من سباتها الذهني وغيبوبتها الفكرية.

وما ينجح فيه جيل العصر الرقمي من "الفسابكة"، هو ما أخفقت فيه النخب الثقافية والسياسية الحداثية طوال عقود، في معاركها الخاسرة مع التيارات الدينية.

 

Email