باريس محجّتنا

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما أقول لصاحبي إنني ذاهب إلى باريس، يردّد على الفور بيتاً من قصيدة لشاعر لبناني، بالعامية، قاله في مديح زعيمه الذي غضبت عليه فرنسا، عندما كانت تدير شؤون لبنان تحت مسمى "الانتداب"، في النصف الأول من القرن العشرين. والبيت هو: "باريس مربط خيلنا/ ورصاصنا يوصّل جنيف". مثل هذا القول الشعري هو امتداد للشعر العربي في مجال الفخر، كما يجسّد نموذجه عمرو بن كلثوم الجاهلي:

إذا بلغ الفطـامَ لنا صبيٌّ * تخِـرّ له الجبابر ساجدينا

إنه كلام يجمع على نحو طفولي، كاريكاتوري، بين العقلية اللبنانية التي يعتبر صاحبها أن لبنان مركز الكون، وبين العقلية العربية التي يقلب صاحبها الأمور رأساً على عقب، فيعتبر الهزيمة نصراً، ويحسب الضعف قوة وسلطاناً.

ولذا، ما إن لفظ صاحبي العبارة حتى سارعت إلى الرّد قائلاً: باريس هي محجتنا، لأنها مصدر نهضتنا الحديثة، في الآداب والفنون، وفي الفلسفة والعلوم، كما في السياسة ونظام الحكم، فضلاً عن كونها تمثّل مكاناً آمناً للهاربين من أنظمة الاستبداد والإرهاب. وعلى هذا النحو بدأت علاقتنا بها في الزمن الحديث.

ولا تزال، من رفاعة الطهطاوي إلى محمد عبده، ومن طه حسين إلى أدونيس، ومن ريمون إده إلى سعد الحريري.. ولائحة الأسماء لا حصر لها. ومن المفارقات أن الذين يهاجمون الغرب، لا يجدون سوى باريس وبقية العواصم الأوروبية.

ملاذاً وملجأ من جور حكوماتهم وبؤس مجتمعاتهم، أو منبراً لعقد مؤتمراتهم وتدارس قضاياهم أو إدارة ثورتهم. هذا ما فعله الخميني الذي أقام في باريس وأتى منها إلى طهران لاستلام سدة الحكم عام 1979، وهذه هي الحال الآن، حيث يقيم أو يجتمع في باريس السوريون المعارضون لنظام الحكم.

وصلت إلى باريس في الأول من سبتمبر، حيث تنتهي العطلة الصيفية وتُستأنف دورة الحياة بمختلف وجوهها وأنشطها حراكاً وعملاً، ابتكاراً وتجديداً. ولذا، تكون العاصمة الفرنسية، في هذا الشهر، في ذروة حيويتها وإشعاعها، بمدارسها وجامعاتها، بمكتباتها ومسارحها، بمعارضها ودور أزيائها، بشوارعها ومقاهيها المكتظة بالناس من كل حدب وصوب، أو من كل صنف ولون، سيما في الحي اللاتيني الذي هو مرتع المثقفين ومقصدهم.

إنها "العودة" كما يسميها الفرنسيون. ولا شك أنها عودة أدبية بالدرجة الأولى، ولذا ينشغل الناشرون والكتاب بالإعلان عن الأعمال الجديدة التي تصدر بالمئات (سيما في محال الرواية). وهي تعد القارئ بالجديد والمثير أو المدهش من المؤلفات، التي تحرك المشاعر وتوسع المدارك، وتغني التجارب، بما تنطوي عليه من تجديد وإثراء في آفاق الكتابة وحقول الرؤية، أو في طرائق التفكير وأساليب التعبير.

فرنسا هي اليوم فريسة خوف وقلق يتعلق بدورها ووزنها ومكانتها في أوروبا والعالم، بعد تراجع نموذجها الاقتصادي والاجتماعي الذي كان يعد الأفضل في أوروبا على مدى عقود.

ولكنه استهلك ولم يتمكن الساسة من تجديده وتفعيله، لا على جبهة اليسار ولا في معسكر اليمين. هذا القلق، الذي يتغذى من الإنجازات التي تحققها الدول الناشئة في غير بلد، تعبّر عنه التحليلات والكتابات التي تغالي في التشاؤم إلى حد الإعلان عن أن فرنسا تكاد تصبح دولة من دول العالم الثالث.

من هنا ثمة ورشة دائمة من النقاشات والمداولات، في مختلف أمكنة الفضاء العمومي ومنابره ووسائله. ففي الصحافة وعلى الشاشة تفتح كل الملفات المتعلقة بمفردات الحياة، من المدرسة إلى السكن.

ومن الصحة إلى البيئة، ومن الاقتصاد إلى السياسة، ومن الثقافة إلى الديمقراطية... ناهيك عن القضايا المتعلقة بالهوية والعائلة. وكلها قضايا تحتاج إلى حلول، مما يشهد على مبلغ الأزمة، إن لم نقل "الإفلاس".

كما يشخص الواقع رئيس وزراء فرنسا السابق فرنسوا فيون. ففي قضية الهوية الوطنية، مثلاً، ثمة مشكلة تخلقها الهوية الثقافية الفرعية للمسلمين الذين يريدون ممارسة خصوصيتهم الدينية على حساب الاندماج المجتمعي.

كما تشهد السجالات التي تتجدد حول مسألة الحجاب وسواه من المظاهر الدينية، رغم قوانين المنع والحظر. ولو توقفنا عند المجال الاقتصادي، نجد أن الأزمة مستحكمة في فرنسا، كما تشهد مشكلات الدّين، والبطالة، والنمو... وكل حزب يرمي المسؤولية على سواه، أو على الخارج.

وهكذا فالأزمة تضرب عميقاً، مما يعني أنه لم يعد في وسع الفرنسيين أن يحافظوا على مستوى عيشهم، أو أن يتباهوا بكونهم يشكلون استثناء ثقافياً، من غير تغيير أو تجديد يطال رؤيتهم لأنفسهم، كما يطال نمط حياتهم وأساليب عملهم وإنتاجهم واستهلاكهم.

وحسنا يفعل بعض الكتاب من ذوي العقول الحية والرؤى المستقبلية، ممن يقولون: آن لنا أن نتحرر من أسطورة "الاستثناء"، فما نحتاج إليه ليس المحافظة على كوننا استثناء، بل إعادة ابتكار فرنسا لفتح فضاءات وآفاق وحقول جديدة وخصبة للنظر والعمل، للتفكير والتدبير، للإنماء والبناء.

أنهي كلامي بالقضية التي هي الشغل الشاغل لفرنسا والعالم، والتي هي معضلة العرب بالدرجة الأولى، أعني التهديد بتوجيه ضربة عسكرية للنظام السوري بعد خرقه الخط الأحمر، باستخدام السلاح الكيماوي.

هنا أيضاً يبدو الفرنسيون، من ساسة ومثقفين، منقسمين حيال المسألة. فهناك من يقف ضد التدخل العسكري، وحجتهم الأبرز أن التدخل يقوي المنظمات الأصولية ويهدد مصير الأقلية المسيحية. وهؤلاء يسدلون الستار على عقولهم، لأن النظام الذي حارب الأصولية في الداخل، قد دعمها واستخدمها كأوراق للعب في الخارج على هذه الساحة أو تلك.

وبعد انفجار الثورة أتت المنظمات الأصولية إلى سوريا، ومع ذلك فرأس النظام هو الذي سهّل لها أمر الدخول، لكي يسوغ تشبثه بالحكم. وهذا شاهد على أن الزعيم والمرشد والجهادي الإرهابي، هم وجوه لعملة واحدة تسهم في خراب المجتمعات العربية، بقدر ما تحولها إلى ملعب لصراع الدول الكبرى والقوى الفاعلة على المسرح العالمي.

هذا ما يشهد به الاتفاق الذي تم مؤخراً بين أميركا وروسيا بشأن سوريا، التي خرج الأمر من يدها وباتت مجرد ساحة للصراع أو حجر على الرقعة أو ورقة للمفاوضة، من جانب دول تمارس الوصاية عليها بوصفها أولى بها من نفسها، وتدعي الدفاع عن الشعب السوري، فيما هي تعبث بمصيره وتمزق وحدته وتسهم في تدمير حضارته.. وتلك هي الكارثة والمهزلة والفضيحة.

 

Email