إرادة الشعب

ت + ت - الحجم الطبيعي

باسم إرادة الشعب تمت تنحية الرئيس مبارك، وباسم إرادة الشعب نفسه تم الوصول بالرئيس مرسي لسدة الحكم، ونزولا على تلك الرغبة تمت الإطاحة به، لينتظر مصيرا غامضا يُسعد الشعب ويوفر له طاقة التحرك من أجل نشوة جديدة.

وباسم إرادة الشعب وصل هتلر للحكم، وتسبب في مقتل الملايين ودمار أوروبا. وباسم إرادة الشعب أوصل الأميركيون الرئيس جورج بوش الابن لحكم أكبر دولة في العالم، ليقودها بعد ذلك في حروب كونية من أجل القضاء على الإرهاب.

وباسم إرادة الشعب وصل العديد من الحكام الطغاة في عالمنا العربي لحكم بلادهم، متسببين في هلاك الآلاف من أبناء جلدتهم، ناهيك عن تراجع التنمية وارتفاع معدلات الفقر بها. وباسم إرادة الشعب تندلع المعارك والحروب وتنتشر الكوارث والمجازر في كل مكان. فالشعب هو المادة التي تنبثق منها كل شرور السياسة وآثامها، عبر التاريخ والأزمنة!

بداية، ما هو الشعب ذاته؟ وهل هناك تكتل محدد ومعروف يمكننا أن نعرف من خلاله المقصود بتلك الكلمة الغامضة المثيرة للشجون والمدغدعة للمشاعر والمحركة للملايين؟ وهل هناك شعب واحد ضمن الوطن الواحد؟ أم أن كل وطن يمتلك شعوبا عديدة متنوعة بغض النظر عن الاختلافات الدينية والعرقية؟

الواقع أن التجربة المصرية والاضطرابات التي تشوبها، تجعل مفهوم الشعب غامضا ملتبسا، وربما تجعله أصل كل المشكلات والكوارث التي يواجهها المصريون الآن.

فالكتّاب والمفكرون الذين انبروا من أجل الحديث عن إرادة الشعب التي سجلت أروع الملاحم مع اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير، نجدهم الآن يتناسون هذا الشعب ويتجاهلونه تماما حينما يسطرون بحروف جديدة من نور، شعبا آخر أبيا أكثر ثورية خرج يوم الثلاثين من يونيو، ليحفر تاريخا جديدا ويسجل ثورة جديدة. واللافت للنظر هنا أن الذين خرجوا في الخامس والعشرين من يناير والثلاثين من يونيو مصريون، يعيشون في مصر وينتمون لها.

يكشف الحديث عن الشعب وإرادته ورغباته وأمنياته وطموحاته، نوعا من الغوغائية السياسية السائدة الآن، ليس فقط في مصر ما بعد الثورة، ولكن أيضا في الكثير من الدول العربية، وربما الكثير من دول العالم. وهذه الغوغائية تستفيد من الحشد الجماهيري الذي يسهل تطويعه والتحرك به، وفقا لمصالح النخب السياسية وتوجهاتها المعلنة أو الخفية.

وعموما فإن الكتل الجماهيرية يتم التلاعب بها بسهولة ويسر؛ فمن كان يتخيل أن تتم الإطاحة بعلاقات تاريخية وعميقة تربط المصريين بالجزائريين من أجل مباراة كرة قدم.

وما تم تسميته في ذلك الوقت حلم الوصول لكأس العالم؟ ومن كان يظن أن تتم الإطاحة بالعلاقات بين أبناء الوطن الواحد ليشهد العراق الكثير من القتل والتدمير والانقسامات؟ ومن كان يظن أن تنهار علاقات البشر في مصر وينقسم الشعب بمثل تلك الحدة بين من يقف مع الإخوان المسلمين ومن يعارضهم؟

كل فصيل أيا كانت توجهاته ومراميه وأهدافه، يتحدث باسم الشعب وإرادته والشرعية المستمدة منه.

النظام السياسي في مصر يستند إلى شرعية الملايين الذين خرجوا في الثلاثين من يونيو، تدعيما له ورفضا لحكم الإخوان. والإخوان وحلفاؤهم يحولون تلك التظاهرات التي تخرج بين الحين والآخر، إلى الحديث عن إرادة الملايين والشعب والشرعية، رغم تراجع أعدادها بشكل كبير ولافت للنظر. لا يرى الإخوان قلة أعداد من يخرجون دفاعا عنهم، ويصرون على أن الملايين من أبناء الشعب المصري يخرجون دفاعا عن الشرعية ورغبة في عودة الرئيس المنتخب.

يبدو أن إرادة الشعب هي الوقود الحقيقي الذي يتم استخدامه في الثورات، لكن في الخلف من هذه الثورات يتشابك العديد من المصالح والمشارب والتطلعات. ويتصدر مشهد الملايين من الجماهير بعض النخب السياسية التي تلهب حناجرها وتؤجج عواطفها، لكن الشيء المؤكد يتمثل في وجود قوى أخرى فاعلة مجهولة داخليا وخارجيا، تحرك المشهد وفقا لمصالحها.

وربما وفقا لرؤاها الوطنية وعلمها بحقائق الأحداث والأوضاع. فمن غير المتصور أن تأتي مجموعة من النخب السياسية لتقود الملايين لتحدث الثورات فجأة، متبوعة بتغيرات فعلية وعميقة وجذرية في دولة بالغة البيروقراطية مثل مصر مثلا. ومن غير المتصور أن الثورات تحدث التغيير المنشود في أسابيع قليلة، أو حتى عدة سنوات، في مجتمعات غارقة في الفقر والتخلف والفساد والانفلات الأمني.

الواقع أن إرادة الشعب تكون في صدارة المشهد؛ فميدان التحرير كان الجذوة المتقدة التي استفاد منها المفكرون والمثقفون ورجال الدين والإعلاميون، الذين تحركوا وفقا لزخم الجماهير تارة ووفقا لتوجهاتهم ومصالحهم تارة أخرى. لكن في الخلف من المشهد المستتر، كان هناك من يحرك هؤلاء وهؤلاء، ويعلم تماما إلى أين تسير الأمور وإلى أي اتجاه تتحرك وتستقر.

هكذا تسير الأمور، ليس في مصر فقط، وإنما في كل مكان. لكن يظل الفارق كبيرا بين الشعوب وفقا لدرجة وعيها ومستوى تعليمها ودرجة الفقر التي تعتصرها؛ فهناك شعوب متقدمة يصعب انقيادها، وأخرى متخلفة طيّعة، يسهل توجيهها وشراء ضمائرها!

 

Email