جيرترود وقناعها

ت + ت - الحجم الطبيعي

فوجئت عندما وقع نظري على رواية "جيرترود" لحسن نجمي، لعلمي بأنه شاعر بالدرجة الأولى. ولكنه بدا لي روائياً من طراز رفيع في هذه الرواية، التي تدور في مجملها حول العلاقة التي ربطت بين الشاب المغربي "محمد" وبين الكاتبة والرسامة الأميركية "جيرترود شتاين" (1898- 1947) التي أقامت في فرنسا.

وصنعت لها شهرة في الوسط الثقافي، حتى باتت واحدة من الشخصيات البارزة، تستقبل في بيتها، الذي تحول إلى صالون أدبي ومتحف فني، كبار الفنانين والأدباء، أمثال بيكاسو وماتيس وأبولينير وهمنغواي وماكس جاكوب.. وكان بيكاسو قد رسم لها صورة شهيرة هي التي تتصدر صفحة الغلاف في الرواية.

أما محمد الذي أتقن الإسبانية والفرنسية، فقد تعرف إلى السيدة الأميركية، في طنجة، أثناء زيارتها للمدينة، إذ كان مكلفاً بمرافقتها، فجمع بينهما ما يجمع بين المرأة والرجل، عندما يختليان. لقد فتنت جيرترود بالفتى المغربي بعد ليلة فردوسية قضتها معه، وعندما كانت تودعه دعته لزيارتها في باريس.

وكان "محمد" الذي أوتي حظاً من الثقافة، يتردد في تلبية الدعوة، نظراً لإدراكه الفارق الكبير بينه وبين جيرترود، من النواحي الثقافية والمجتمعية والشخصية. ولكنه حزم أمره في النهاية، فترك وظيفته الرسمية وسافر إلى باريس يحركه الهوى والشوق، أو حب المغامرة.

فاستقبلته جيرترود وأقام عندها بوصفه رجلها، في الظاهر، بل الرجل الوحيد في بيتها لا ينافسه على محبتها ونيل رضاها سوى غريمته الأميركية أليس توكلاس، التي اضطلعت بأكثر من مهمة في حياة جيرترود، إذ كانت صاحبتها، ورفيقتها، وساعدها الأيمن في أنشطتها الأدبية والفنية.

حاول محمد الانخراط في أجواء جيرترود، حيث أتيح له التعرف على كبار المثقفين والتحدث إليهم، بمن فيهم بيكاسو، وقد حرص على أن يتعلم ويكتسب خبرات جديدة تؤهله ليكون مكافئاً لسيدته، فكرياً ومجتمعياً.. ولكن ذلك كان من المحالات، فلا فحوله الفتى المغربي، ولا ذكاؤه، ولا معرفته حدوده والتزامه بخدمة جيرترود، إذ كان دوماً رهن إشارتها..

لم يكن كل ذلك كافياً ليردم الهوة بينهما، أو ليضمن دوام العلاقة، سيما وأن جيرترود كانت استثنائية بالنسبة إلى محمد، بذكائها ومكرها ومكانتها وحضورها ونرجسيتها وتسلطها، إذ كانت تحب فرض سيطرتها حيث توجد، كما يروي عارفوها، وعلى رأسهم بيكاسو الذي كان يفوقها نرجسية وسطوة.

ولذا كان من المتوقع أن تستنفد العلاقة بين محمد وسيدته، وأن تصل إلى نهايتها الكارثية. فما أن شعرت الأميركية بأن المغربي لم يعد طوع أمرها، وأنه أخذ يخرج من الشقة بعد أن استهوته بيئة الغجر الذين كانوا يقيمون في ضاحية باريس، حتى غضبت عليه ونفرت منه وسدت الباب في وجهه، طالبةً إليه أن يعود من حيث أتى.

وهكذا عاد محمد إلى طنجة، مهاناً، مجروح الكرامة، محطم الآمال. لقد طعنته جيرترود في الصميم، بعد سنوات قضاها عندها بوصفه خادمها المطيع، وظل هذا الجرح يعتمل في داخله، ويسبب له الحزن والألم، حتى وفاته.

حاول محمد أن يكتب ليخفف من وطأة الألم، ومع أنه كان يعيش وسط المثقفين في طنجة، فلم يحسن أن يصنع من نفسه كاتباً. ما كان بوسعه أن يفعله، هو أنه ترك أوراقاً سجل عليها ما تذكره أو تخيله من الوقائع والتفاصيل المتعلقة بحياته في باريس. وقد عهد بهذه الأوراق، قبل رحيله، إلى صديقه الشاب حسن نجمي وتمنى عليه أن ينوب عنه في كتابة ما عجز عنه، أي قصته مع جيرترود، سيما وأن هذه الأخيرة قد تجاهلته في سيرتها وذكرته بصورة عرضية، الأمر الذي ضاعف من إحساسه بالإهانة والمرارة.

وكان على نجمي، الذي قبل المهمة، ألا يكتفي بما تركه محمد من مذكرات، فالتقى لهذه الغاية بالسيدة ليديا ألتمان، مديرة المكتب الإعلامي في السفارة الأميركية في الرباط، التي يسرت له الذهاب إلى نيويورك ليطلع على المعلومات من مصادرها، في متاحف المدينة التي تضم مقتنيات جيرترود وأعمالها وصورتها.

إلا أن نجمي، وكما يروي، وقع في غرام ليديا ونشأت بينهما علاقة حب. وصار الراوي يروي قصتين متداخلتين: قصة محمد وجيرترود، وقصته مع الإعلامية الأميركية.. مع فارق أن علاقة حسن بليديا هي علاقة ندية، جمعت بين دبلوماسية أميركية مثقفة وبين كاتب وصحافي مغربي مرموق، مما زاد الرواية غنى وطرافة وتشويقاً.

إذا كان للرواية مرجعها في الواقع كونها تحكي قصة أناس حقيقيين، فإنه من التبسيط والخداع أن نعدها سيرة حياة، فما من حياة تستعاد كما هي، سواء تحدث الراوي عن حياته أو عن حياة غيره، وإلا لا تكون عملاً فنياً، إذ لا فن من غير إبداع أو اختراع تتحول معه المعطيات إلى أثر أدبي خارق.

وهكذا فالرواية ليست مرآة للواقع، بل تصبح هي نفسها واقعاً بما تخلقه من العوالم والحيوات والشخوص والأحاسيس والأفكار.. وهذا ما أنجزه حسن نجمي في روايته. إنه صنع، عبر السرد، صورة مختلفة لجيرترود تحيا بها حياة جديدة.

وليس الأمر مجرد وهم، فهناك خيط رفيع بين الوهم الخادع أو الخيال السقيم، وبين التخييل الخلاق والمخصب، حيث تخرج الشخصيات الواقعية مخرجاً جديداً تبدو فيه واقعية أكثر من الواقع نفسه، أي أغنى وأقوى وأبقى وأكثر حيوية.

هذه هي مفاعيل الأعمال الفنية التي، فيما هي تحكي عن الواقع، تتحول هي نفسها إلى واقع يترك أثره العميق والدائم في تشكيل العقول وفي تغيير مشهد الواقع. وهذا ما يجعلنا نفهم القول الذي ورد على لسان بيكاسو عن الصورة التي رسمها لجيرترود: "إذا كانت الصورة لا تشبه صاحبتها، فسيتشابهان في المستقبل".

وهكذا أبدع نجمي في خلقه لجيرترود، عبر إنشائه الجميل وسرده الممتع، بقدر ما نجح في بناء عالمها وتأول تجربتها وتركيب هويتها..

وإذ كانت رواية جيرترود تنطوي على حوارات غنية بالأفكار والآراء، فإن ذلك لم يحولها إلى عمل فكري، بل إن الأفكار وظفت لمصلحة السرد. نحن إزاء رواية متقنة بقدر ما هي محبوكة، ومبنية بقدر ما هي مبتكرة، وغنية بقدر ما هي حية، ومشوقة بقدر ما هي كاشفة. لقد أثبت نجمي بواسطتها أنه أديب منشئ، وفنان صانع، وقارئ جيد للمصائر، فضلاً عن شاعريته التي تتجلى في أسلوبه.. هذا ما جعلني أقرأ الرواية بشغف، ولكن بتأن، إنها رواية لا ننتهي من قراءتها.

 

Email