كيف نفكر؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

أنا من عشاق لعبة التنس (كرة المضرب)، أتتبع أخبارها وأتابع بشغف أبرز بطولاتها. وإذا كنت أستمتع بمشاهدة اللاعب الماهر أو اللاعبة الجميلة وسط الملعب، فإنني أعجب بالنقاد الذين يعلقون على وقائع المباريات. صحيح أن الواحد منهم لا يدعي أنه منظّر أو مفكّر، ولكنه يملك عدة فكرية: في التحليل والتقييم، بقدر ما يفكر بصورة حية، فيما هو يقرأ المجريات في الميدان.

ولذا نجد الناقد المعلق لا يهتم فقط باللياقة البدنية للاعب، بل يهتم بالدرجة الأولى بقدرته الذهنية: ذكائه، حضوره، تركيزه، توازنه، مرونته أثناء اللعب، واستعداده لتغيير أسلوبه عندما يواجه صعوبة أو يشعر بأن خصمه يتفوق عليه.

والناقد، إذ يقيّم ويقدّر، يملك أدق المعلومات حول تاريخ كل لاعب، منذ احترافه حتى آخر مباراة اشترك فيها. ولكن اللعبة ليست مجرد ذاكرة، فالمعلومات توظف لاستخلاص الدرس، أي لتطوير القدرات وتحسين الأداء، في المباريات المقبلة.

وهكذا فإن كرة المضرب، كسائر ألعاب الكرة، تقدم شاهداً على أن اللعب ليس مجرد عضلة، بل هو خبر ومعرفة وقراءة ذكية للوقائع، سواء تعلق الأمر باللاعب وقدرته على استغلال الفرص وتعديل الخطط، أو بالناقد الذي يقرأ ويحلل بفكر تعددي وعقل استراتيجي، معتبراً أن اللاعب المتفوق يملك أكثر من حل أو خطة في مواجهة الصعوبات أو التحديات. وهكذا، لا ينطلق الناقد من فكرة مسبقة يسعى إلى تطبيقها، بل يقرأ حركة كل لاعب وردود فعله في الميدان، من حيث قدرته على الابتكار والتجديد في مسار اللعبة وتاريخها.

والناقد الناجح، كما اللاعب الماهر، هو في ذلك على عكس ما يفعله مثقفون ومفكرون ينطلقون من أفكارهم الجاهزة أو نظرياتهم المستهلكة، حول الإنسانية أو الديمقراطية أو الحرية أو الثورة، لكي يحاكموا الواقع الحي والنابض، أو المتوتر والمضطرم، فإذا بالوقائع ترتد ضدهم وتفاجئهم بانفجاراتها وتحولاتها. ولا عجب، لأن الممكن في قراءة ما يحدث، ليس التفكير وفقاً لنماذج أو ثوابت تعامل كأصنام أو أيقونات، بل الانخراط في صناعة الواقع، بخلق وقائع تخرق الحدود المرسومة والشروط الموضوعة، بقدر ما تكسر القوالب الجامدة والنماذج المستهلكة، التي تشل طاقة الفكر على ابتكار الحلول بصورة غير مسبوقة ولا متوقعة.

والشيء يستدعي شبيهه أو نقيضه، مما يجعلني أنتقل من نقاد الكرة الذين يبدعون في مهنتهم وعملهم، إلى الكلام على فضائح من يدعون فلسفة ومعرفة، ممن يخشون من مصطلح "التفكيك" ويتعاملون معه كفزاعة، لكي يشهدوا على الجهل والسذاجة أو العماية.

وقد سألني أحدهم، ذات ندوة، عن قصتي مع التفكيك، فقلت له إنه لا مهرب من التفكيك ما دمنا نتكلم بوصفنا كائنات ناطقة. ثم أضفت قائلا: أنت إذ تنخرط في محادثة معي، إنما تفكك، ولكن لتركّب أو تعيد التركيب. وللإيضاح، قلت لمحدثي إنني عندما أستمع إلى ياباني يتحدث، أجد نفسي أمام العماء، إذ ليس بمقدوري أن أميز حرفاً من حرف، لكوني أجهل اليابانية. ولكنني عندما أستمع إليك، كنت أقوم بتفكيك عباراتك، وبصورة لا واعية، لكي أفهم ما تقول. وبمجرد أن أرد عليك أقوم، وبصورة لا واعية أيضاً، بتركيب عبارتي على نحو يجعلها عبارة مفيدة تؤدي المعنى المراد.

بالبطع هذا مثال على التفكيك، على المستوى اللغوي، يمارسه كل من ينطق بلغة، ولو كان أمياً وغير متخرج من مدرسة.

هناك مستوى آخر من عمل التفكيك، هو ثمرة للتأمل والتفكر على سبيل الدرس والفحص أو التشريح والتحليل، وهو نشاط نقدي تنويري قد يتناول خطاباً أو مؤسسة أو تجربة أو تصرفاً، لكي يكشف أو يفضح ما يتم نسيانه أو استبعاده أو حجبه، من المعطيات والعناصر والوقائع.

ومثال ذلك خطاب الشارح أو المفسر لنص فلسفي أو ديني، فهو كلام يحجب الحقيقة من وجهين:

الأول هو اختلافه عن النص الذي يشرحه أو يقرأه، من حيث بنيته. وكل اختلاف في البنية النحوية ينتج انزياحاً في المعنى، أياً كانت درجة التشابه. وأراني أنتقل إلى مثال ملموس: فقد علقت قبل عقود على كتاب "أوروبا والإسلام" للمؤرخ التونسي هشام جعيط. وقد بعث لي برسالة يشكرني على اهتمامي بالكتابة عن مؤلفه، قائلاً إنني عبرت عن مراده "أحسن مما عبر هو نفسه". ولكني، وبحسب منطق التفكيك الذي كان يرفضه جعيط، لا أقول إنني عبرت أحسن منه عما أراد قوله، لأن ذلك يلغي الحاجة إلى كتابه. ما أقوله هو أنه استحسن تأويلي أو قراءتي لكلامه المختلف عن كلامي. وهكذا كل خطاب ينتج معناه، فيما هو يفكك ما يقرأه لكي يعيد تركيبه.

الأمر الثاني أن خطاب الشرح والتفسير، فيما يدعي القبض على المعنى الأصلي للنص الذي يقرأه، إنما يحل محل النص الأول ويصبح أولى منه. هذا هو مآل خطابات العلماء والدعاة والوعاظ الذين يقولون: هذا هو المعنى المقصود للآية، أو هذا هو الإسلام الأصولي الصحيح.. كلهم يُحلون أقوالهم محل الأصل، فيما يدعون القبض على معناه. والحل لهذا الإشكال، أن نعتبر أن أي قراءة لنص من النصوص تختلف عنه، لكي تشكل نصاً له حقيقته ومعناه.

هذا ما يفسر كيف أن الصراع بين المسلمين، لم يعد صراعاً على الأصول الجامعة (الله/ القرآن/ النبي)، بل على الفروع كما تتمثل في الصحابة والأئمة والعلماء، وكما تتمثل بنوع خاص في الاجتهادات والمذاهب التي حلت محل الأصول، بقدر ما أصبحت هي الحاكمة عليها والمالكة لمفاتيح تأويلها وتفسيرها.

أخلص إلى القول إننا إزاء شاهدين: الأول يتعلق بفاعلين يتعاملون مع مهنهم بصورة حية وخصبة، مع أنهم لا ينتمون إلى القطاع الثقافي، في حين هناك أناس ذوو مهن معرفية وألقاب فكرية، يخشون على فلسفتهم وحداثتهم وثوابتهم، من المناهج الفكرية الجديدة التي تفتح إمكانات لكي نشخص الواقع، ونفهم ما يستعصي على الفهم أو يخرج عن نطاق التفكير، مما هو غامض أو ملتبس أو مراوغ أو معتم..

Email