سلطة الترهيب تتهاوى بعد ابتلاع باقي السلطات

ت + ت - الحجم الطبيعي

فيما كنت أتحدث ذات حفل، عن نشأتي الأولى في بيئتي التي كانت محافظة متشددة، بدأت بالكلام على ذلك الطفل الذي كنته، وكان يخشى أباه ودينه ومعلّمه؛ والثلاثة يجسدون السلطات الثلاث التي تزرع الخوف في نفوس الصغار لتختم على عقولهم بمحرّماتها وأساطيرها ونواهيها. وسلطة الدين يمارسها بالنيابة عنه الأب، وخاصة الكاهن (رجل الدين) الذي بدأت سلطته تهتز مع الدخول في فضاء الحداثة والإفادة من مكتسباتها.

وأذكر أنني بدأت التحرر من السلطتين، الأبوية والدينية، بعد استقلالي عن والدي ومغادرتي إلى المدينة وانخراطي في أجوائها الحديثة، التي أتاحت لي الخروج على تقاليد الأسرة والطائفة.

ولكني نسيت في حديثي عن نشأتي، سلطة رابعة هي سلطة رجل الأمن (الدركي أو الشرطي)، الذي يمثل الدولة والقانون ويتكفل بضبط الأمن وقمع الشغب وإعادة الأمور إلى نصابها، عندما تعجز أو تتقاعس سلطة الأب أو المعلم أو رجل الدين.

بالطبع هناك سلطات أخرى تتفرع من هذه السلطات أو تقوم إلى جانبها، هي سلطة الزوج أو مدير المؤسسة أو صاحب الشركة أو رب العمل.. وكلّها تمارس بصورة تراتبية عمودية، من الأعلى إلى الأدنى، ومن الرئيس إلى المرؤوس، أو من الغيبي إلى الشاهد الذي ينوب عنه.

ولا شك أن ممارسة هذه السلطات تتفاوت بحسب العقليات والبيئات والثقافات، ولكنها جميعها تستخدم العنف على اختلاف درجاته وأشكاله، من التنبيه واللوم والزجر، إلى الضرب أو الغرامة أو الحبس.

هذه السلطات قد تراجعت، قياساً بما كانت تتمتع به من الاحترام والهيبة أو السطوة، في ضوء ما شهدته المجتمعات من الثورات التحررية والتحولات الاجتماعية، التي أدّت إلى خلخلة الكثير من الأطر والمفاهيم والقيم التقليدية. هذا ما يحدث بشكل خاص في البلدان التي انفجر فيها العنف على شكل حروب أهلية أو طائفية.

ففي لبنان، وعلى ما أذكر، كان يكفي مخفر يضم نفراً من رجال الدرك (قوى الأمن الداخلي)، لضبط الأمن في منطقة تضم عدة قرى أو بلدات. أما اليوم فقد تزعزع الأمن، وبات الجيش نفسه عاجزاً عن القيام بهذه المهمة، في مواجهة المنظمات والأحزاب بميليشياتها وجيوشها وأسلحتها.

وما أعتقده هو أن حبل الأمن قد اضطرب على المستوى العالمي، بعد انتشار العنف وتعميم الإرهاب في هذا العصر الكوكبي المعولم، بدليل ما تشهده الدول الأوروبية من أعمال عنف تضطرها إلى تشديد إجراءات الأمن على حساب الحريات.

هذا التراجع يسري على بقية السلطات، سواء اختصّ الأمر بالآباء أم بالمعلمين، لاسيما في المجتمعات الغربية، حيث فقدت الهيبة وقلّ الاحترام. ففي فرنسا يقولون: "أطفالنا أصبحوا طغاتنا"، دليلاً على انهيار سلطة الأب على ابنه والمعلم على تلميذه.

بذلك تراجعت العلاقة التراتبية، العمودية، لمصلحة العلاقة الأفقية، التبادلية، وربما النقدية، فكانت لذلك مفاعيلة السلبية على عملية التربية والتعليم، الرامية إلى نقل الخبرات والمعارف بين الأجيال، كما يشير إلى ذلك مفكرون أمثال ريجيس دوبريه ومارسيل غوشيه، وهي عملية تحتاج إلى قدر من الاحترام للمعلم والاعتراف بمرجعيته أو الخضوع لسلطته.

الكاهن هو الوحيد الذي بقي الاستثناء، إذ ظلّ محتفظاً بسلطته. صحيح أن رجال الدين تراجعوا في ظل الموجة الحداثية، التي لمع فيها نجم المثقف النخبوي والقائد الحزبي أو المناضل النقابي. ولكن رجال الدين استعادوا سلطتهم على العقول والأجساد بصورة مضاعفة، بعد فشل المشاريع الحداثية والمذاهب العلمانية، القومية واليسارية.

وهكذا فإن ما خسره الأب أو الزوج أو المعلم أو الشرطي، قد ربحه الكاهن أو الشيخ أو المرشد الذي ابتلع باقي السلطات، كما نشهد ونكابد في معظم البلدان العربية.

حتى في فرنسا أصبح لرجل الدين السلفي دوره البالغ، وربما المدمر، في تكوين العقول وتشكيل الهويات. يعبر عن هذا الواقع قول تلك الطالبة الفرنسية المسلمة، تعليقاً على ارتدائها الحجاب: أنا لا أتلقى الأوامر لا من والدي ولا من مدير مدرستي، بل من الله مباشرة.

بالطبع هي تخدع نفسها، بقدر ما تحاول خداع غيرها، لأنها تتلقى الأوامر من شيخها لا من الله. ولكن ذلك لن يحول فرنسا إلى غيتوات جهادية أو إلى سجن من النساء المبرقعات. ففي هذا البلد، سلطة الكاهن هي الأضعف، بقدر ما خف الطلب على العملة الدينية، من جانب أكثرية المواطنين الفرنسيين.

لقد حاول الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي أن يلعب أو يداهن أو يتلاعب، عند تسلّمه السلطة (2007)، بقوله: إن المجتمع يحتاج إلى الكاهن أكثر مما يحتاج إلى المعلم. ولكن الرئيس الفرنسي كان بذلك يسير بعكس التيار الغالب، بقدر ما لم يأخذ في الاعتبار التحولات البنيوية التي طرأت على المجتمع الفرنسي، في الفكر والثقافة، كما في التشريع والقوانين. والأرجح أن ساركوزي تراجع عن رأيه، في ضوء الخطر الذي بات يجسده صعود الأصوليات الدينية في البلدان الغربية.

أنهي كلامي على صعود رجل الدين، مستدركاً بالقول: إنني لا أقصد المؤسسات الدينية التقليدية والعريقة، كالأزهر والنجف، كما لا أقصد رجال الدين الذين مروا بمصفاة الحداثة والعلمنة، ممن يدعون إلى ما يؤمنون به بالحجة وبالحُسنى، مرجئين الحكم والحساب إلى يوم الدين. إنني أقصد رجال الدين الأصوليين الذين يريدون إقامة حكم الله على الأرض بالقوة، فيما الواحد منهم هو كتلة من الغرائز والأحقاد والمطامع. ولكن ها هو مشروعهم لأسلمة الدولة والمجتمع يسقط، بعد كل هذا التهويل برفع شعار الإسلام والتهديد بسيفه.

وتلك هي نتيجة الجهل والادعاء والغرور. ففي مصر، حيث المدرسة الأم التي تخرجت منها أكثر الحركات الإسلامية في العالم العربي، انهار حكم المرشد وسقط معه مشروع الإسلام السياسي بسرعة فاجأت الجميع. وهكذا أعطي الإسلاميون "الفرصة" التي انتظروها طويلاً، ولكنهم تعاملوا معها بعقلية القهر والغزو بوصفها غنيمةً للاستيلاء على الدولة والتحكم في البلاد والعباد، لا بوصفها إمكاناً فتح لابتكار نموذج فعال للإنماء والبناء.. ولذا كان من الطبيعي أن يحصدوا الفشل والخيبة.

 

Email