هل كان الجيش المصري منذ 30 يونيو الماضي وراء انتصار الديمقراطية في أرض المحروسة أم سببا في انتكاستها؟

"الجيش المصري الذي قام بعزل الرئيس محمد مرسي، تدخل بناء على طلب ملايين المصريين لحماية الديمقراطية".. هكذا تحدث جون كيري وزير الخارجية الأميركي إلى تلفزيون "جيو" الباكستاني، ردا على سؤال حول السبب الذي حال دون اتخاذ الولايات المتحدة الأميركية موقفا واضحا بشأن تدخل الجيش ضد حكومة مرسي المنتخبة ديمقراطيا.

يؤكد تصريح كيري، بداية، أن بلاده قد أقرت بالأمر الواقع، وأنها أمام متغير جديد لا رجعة فيه، وطريق ومستقبل لا عودة عنه، سيما وأنه من اختيار "ملايين المصريين الذين طلبوا من الجيش التدخل، لأنهم كانوا جميعا خائفين من الدخول في حالة من الفوضى والعنف، كما أن الجيش لم يستول على السلطة وهناك حكومة مدنية تدير البلاد" على حد تعبير كيري...

هل كان كيري أول مسؤول يقر بأن الجيش المصري حمى الديمقراطية بالفعل وليس العكس؟

بعد زيارته لمصر وفي لقاء داخل الغرف المغلقة في الكونغرس، كان وليام بيرنز الرجل الثاني في وزارة الخارجية الأميركية، يقر بأن "ما حدث في مصر منذ 30 يونيو ليس انقلابا كما يصوره البعض، ولذلك فإنه ليس هناك أي داع لقطع المساعدات المقدمة إلى مصر والتي تبلغ 1,5 مليار دولار سنويا".

يقر كيري بأن الجيش المصري حمى الديمقراطية، في حين أن عددا من الأبواق الإعلامية وتلك التي تدعي أنها مراكز فكر محايدة، رغم أنها تحلق في فلك التمويل الحكومي الأميركي، قد حاولت أن تصور ما جرى في مصر على أنه انتكاسة للديمقراطية، وعند نفر منهم أن "عزل مرسي سيعيد إلى الحياة مطالب المتطرفين الأيديولوجية"، على حد تعبير "شادي حميد" مدير الأبحاث في مركز بروكنغز في الدوحة.

غير أن أصواتا أميركية أخرى كانت جاهزة بالرد، وهي أصوات لها وزنها وثقلها السياسي والفكري على حد سواء.

خذ إليك ما كتبه "مايكل موكاسي" القاضي الفيدرالي والمدعي العام السابق، من أن "لا يشكل دستور الولايات المتحدة وقوانينها معاهدة كونية، بل يحميان المواطنين الأميركيين، وينطبق الأمر عينه على سياستنا الخارجية، فهدفها الأول حماية أمن الولايات المتحدة ومصالحها، أما ما تبقى فيحتل مرتبة أقل أهمية"... هل يفسر هذا الكلام موقف جون كيري وتصريحاته الأخيرة؟

تحليل الرؤية السابقة يوضح أن فكرة انتخاب محمد مرسي رئيسا لمصر أو وصول الإخوان المسلمين للحكم، ليس أكثر أهمية من الاعتبارات الاستراتيجية الأميركية الأخرى. بل إلى أبعد من ذلك، فإن الانتخابات في الدول غير ذات الجذور الديمقراطية، لا يمكن أن تكون بالمطلق مؤشرا للسير في الاتجاه الصواب، وعادة ما تكون لتعميق سلطة نخبة حاكمة تسعى إلى تأسيس نظام حكم مستبد، ولهذا فهي تصعد عبر سلم الانتخابات مرة واحدة، لتطيح به من ساحة العمل السياسي لعقود طوال.

لعل كيري وهو يطلق تصريحاته الأخيرة، كان يضع نصب عينيه أحد التصريحات الأخيرة التي ألقاها نائب رئيس حزب الحرية والعدالة الجناح السياسي لجماعة الإخوان المسلمين: "هل تعرفون كم من الناس ماتوا في بناء الأهرامات؟ وكم منهم ماتوا في حفر قناة السويس؟".. وبلا أدنى شك تعكس تلك الأقوال توجها شموليا توتالتياريا، بقبول أكثر المستويات تطرفا في العنف من أجل تحقيق أهدافها على جثث المريدين من الفقراء والدهماء، أما القادة وأنجالهم وأسرهم فهم بعيدون كل البعد عن ساحات الوغى.

أميركا وزارة الدفاع، لم تكن لتختلف كثيرا عن أميركا وزارة الخارجية، ومن لا يصدق عليه أن يعود إلى بدايات الأسبوع الثاني من شهر يوليو تموز الماضي.. ففي مقابلة له مع قناة الحرة الأميركية، أكد رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة الجنرال مارتن ديمبسي على أن "الجيش المصري كان عامل استقرار وليس هناك أي مغزى لاقتراح سحب الدعم للجيش المصري، ومن وجهة نظري ينبغي الاستمرار في علاقتنا القوية مع الجيش المصري، لأنه يعد عامل استقرار في مصر ويحمي العملية الديمقراطية".

التحول اليوم في الموقف الأميركي نحو الذي يجري في مصر، لا يعتبر صادما للذين يدركون ذرائعية السياسات الأميركية وسرعة تحولاتها وتبدلاتها خدمة لمصالحها الاستراتيجية حول العالم، وليس أدل على ما نقول به من ذاك الذي ذكرته "مجلة كومنتري" الأميركية منذ بضعة أيام، من أن "الإخوان المسلمين" يمثلون تهديدا رئيسيا لمستقبل مصر والمصالح الأميركية.

أما على أرض الواقع فقد كان وزير الدفاع الأميركي تشاك هاغل يؤكد على أن الولايات المتحدة ما زالت تعتزم إجراء مناورات عسكرية مع مصر في منتصف سبتمبر المقبل، وهي مناورات النجم الساطع التي بدأت منذ عام 1981 وينظر إليها على أنها حجر زاوية في العلاقات العسكرية الأميركية المصرية.

ذات مرة من التاريخ الأميركي كتب "وودرو ويلسون" خطاب النقاط الأربع عشرة، والتي جعلها الإطار الأخلاقي "لجعل العالم آمنا ديمقراطيا".

ربما بات السؤال الآن؛ هل على واشنطن قراءة بل مراجعة تلك النقاط، سيما وأننا إزاء ما يطلق عليه موجة الديمقراطية التكنولوجية التي غيرت قواعد اللعبة السياسية حول العالم، وإدراك أنها ليست لديها المقدرة على تحديد الفائز فيها مسبقا؟

يبدو أن ذلك كذلك، وهو ما يتجلى في التصريحات الأميركية من كيري إلى هاغل، وصولا لأوباما وإدارته الماهرة في التعامل مع الجوانب الفنية، والعاجزة عن وضع استراتيجية مستقبلية، كما تبدى في التعاطي مع إشكالية الديمقراطية المصرية الشعبوية الأخيرة.