هل حان وقت انتقال التحالف المصري الجوهري من خانة واشنطن، صاحبة الـ 99 % من أوراق اللعبة، كما قال الرئيس السادات ذات مرة، إلى خانة القطب القائم كما العنقاء أي روسيا، الصديق القديم لمصر، والذي كان التخلي عنه مرة واحدة خطأ مصرياً استراتيجياً لا يغتفر؟
ضمن أشياء كثيرة تتغير في مصر اليوم، يأتي الحديث عن إعادة قراءة وترتيب لأوراق العلاقات الخارجية المصرية، لا سيما في ضوء حالة الاحتقان التي قاربت حدود الكراهية للإدارة الأميركية الحالية. في هذا السياق يتساءل المرء ما دلالة أن ترتفع في ميدان التحرير نهار 26 يوليو، جمعة تفويض الشعب لقواته المسلحة إنهاء الإرهاب والعنف في مصر، صورة للزعيم الروسي فلاديمير بوتين بجوار صور الفرق أول عبد الفتاح السيسي، والزعيم الخالد جمال عبد الناصر؟
الجواب البديهي، لأن الثلاثة من طراز الزعماء الذين يعرفون كيف يقبضون على الكرامة بأسنانهم، ويملكون من الحب النقي الصافي لأوطانهم ما لا يملكه غيرهم من المتاجرين بالدين، وعندهم ما ليس لدى المزيفين.. رؤيتهم للحق بوضوح.
ظهور بوتين في التحرير يحمل حتماً أكثر من رسالة، منها ما هو للعالم الخارجي المصاب بازدواجية أخلاقية قاتلة، وفي المقدمة منه واشنطن وعدد من العواصم الغربية، ومنها ما هو داخلي لحراس العهد المصري الجديد.
يبقى الداخل أهم وأبقى أبداً، دون أن يختزل أهمية الخارج، فالذي لا يملك رؤيته وقراره لا يقيم له العالم وزناً، وقد حان الوقت ليسطر المصريون نسقاً جديداً من العلاقات الخارجية المتوازنة مع القوى العالمية، دون أن تستأثر واشنطن أو غيرها بنصيب الأسد في شراكات مصر الاستراتيجية.
أما رسالة الخارج فربما كانت موجهة للأميركيين على نحو خاص، وخاصة بعد مواقفهم المتخاذلة تجاه مصر وما يجرى فيها منذ 30 يونيو من إعلاء للصوت الوطني الحقيقي لا المأجور، عبر الملايين الهادرة التي خرجت إلى الشوارع ملبية نداء فارس مصر الجديد، الفريق أول عبد الفتاح السيسي.
والمدرك بذكاء منقطع النظير أن الاحتكام للشعب المصري فيه خلاص مصر والمصريين وطريقهم إلى مصر المستقبل، التي يراها "مصر أم الدنيا وها تبقى قد الدنيا". لم تترك واشنطن مصر والسيسي طوال الأشهر القليلة الماضية، إلا وكانت تلعب دور "سارق الفرح" جهراً وسراً، فمن باب خفي تمارس ضغوطها على صندوق النقد الدولي لوقف القرض الذي تحتاجه مصر، وعلناً تؤجل تسليم طائرات F61، ناهيك عن عدد من المخططات التي سيعلن عنها في وقتها، والكفيلة بزعزعة العلاقات المصرية الأميركية.
يظهر بوتين في ميدان التحرير ومن خلفه روسيا، التي حذرت أميركا من ممارسة ضغوط على مصر الجديدة لصالح الإخوان المسلمين، وترتفع صوره في التحرير بعد موافقة بلاده غير المشروطة على زيادة صادراتها من القمح في سنة التسويق 2013- 2014 التي بدأت هذا الشهر.
أما عما وراء الكواليس، فيكفي في الحال أن نشير إلى التحذيرات الاستخبارية الروسية التي وصلت المصريين وأبطلت خطة جهنمية للأميركيين للإطاحة باستقلال مصر، وبعودة الرئيس المعزول إلى منصبه، وفي الاستقبال المزيد من التفصيلات حول ذاك الذي يدبر أميركياً لمصر في الخفاء، لولا عناية الله وبعض من صداقة متبقية لدى الروس لمصر، انطلاقاً من علاقة بين شعبين أصحاب حضارات وجذور تاريخية.
ربما أضحى فرض عين اليوم على مصر أن تلتفت إلى الشرق من جديد، فقلب العالم يتحول وللمرة الأولى منذ خمسمئة عام، من الغرب إلى الشرق، حيث روسيا والصين، وربما بات من الواجب إعادة النظر مصرياً في تنويع مصادر السلاح، مع العلم بأن روسيا باتت شديدة القرب اليوم في الصناعات العسكرية مما تنتجه أميركا، وربما تبزها في بعضها.
بوتين الصامد في الكرملين اليوم، يحفز النخبة السياسية والعسكرية المصرية الجديدة على المضي بخطوات واثقة دون خجل أو وجل، في بناء دولة ديمقراطية تنموية نهضوية حديثة، دون ضغوط أميركية، وتجربته في الكرملين في مواجهة الأوليغاركية الروسية، ربما يكون فيها قبس من ضوء للمصريين اليوم، لا سيما بعدما قامت به واشنطن من محاولات لا تنقطع في طريق إجهاض دورها القيادي العروبي، وبناء دولتها القوية القادرة على رسم سياساتها الخارجية دون إملاءات. يتردد في الأروقة الدبلوماسية المصرية، أن هناك زيارة مهمة وقريبة جداً للرئيس الروسي بوتين إلى القاهرة...
حسناً، فليكن، وحتى لو كان الأمر مجرد تمنيات أو تكهنات، فإن ما لا يغيب عن أعين القراء، أنه نظراً للخبرة الروسية مع الجماعات المتشددة الأهلية التي تسعى للحصول على الدعم من المتطرفين العرب، فإن بوتين يعتقد أن استقرار روسيا داخلياً يتطلب وجود زعماء أقوياء في الشرق الأوسط، قادرين على إبقاء المتطرفين تحت السيطرة. هل أخطاء واشنطن مكاسب لروسيا؟ مهما يكن الجواب، فإن علاقات مصر الجديدة لا يجب أن تكون لعباً على المتناقضات العالمية، بقدر إدراك المتغيرات الخارجية الدولية، وفي ظل إرادة وطنية تسعى لبناء مصر الحديثة من زمن عبد الناصر إلى أوان عبد الفتاح السيسي.