الكاتب والمناضل بين المهمة والمهنة

ت + ت - الحجم الطبيعي

وسط الصراعات الطاحنة والصدامات الدموية، سواء على مستوى الهويات الثقافية أو على صعيد الخيارات السياسية، يواجه الكاتب أسئلة واعتراضات أو اتهامات، من جانب كتاب أو قراء لا يفّرقون في عمل الكاتب أو المؤلف بين المهمة النضالية وبين المهنة الأدبية، بين الموقف السياسي وبين الفحص العقلي والتحليل النقدي.

في هذه المقالة عودة نقدية، على مفهوم المثقف ودوره وعلاقته بقضايا الحرية والهوية والانتماء، وذلك من منظور المحترف الفلسفي.

1- الكاتب: ثمة تصور ترسخ في الأذهان حول مكانة المثقفين ومهمتهم، بوصفهم العقول النيّرة والضمائر الحية في مجتمعاتهم. ولذا فالمثقف، بحسب هذا التعريف، يتأرجح دوره بين نماذج الداعية والمناضل والمصلح أو الثائر، المطالب بتغيير الأوضاع أو المدافع عن مصالح الجماهير وقضايا الشعوب.

هذه هي الصور التي فبركها العصر الايديولوجي لفلسفات التقدم وحركات التحرر: المثقف منخرط في الشأن العمومي، ناقد للسلطات السياسية والدينية والاقتصادية، بوصفه يحتكر الحقيقة ويُجسّد قيم الحرية والعدالة..

ولما صدر كتابي "أوهام النخبة" (1996) وفيه وضعت المثقف على مشرحة النقد، وحاولت إعادة النظر في دوره وفي علاقته بما يدعي تمثيله أو تجسيده من القيم والشعارات، هاجمني البعض بوصفي أخرج على قبيلتي الثقافية وعلى إجماع أهلها، ومنهم من اتهمني بأنني أعمل لمصلحة الإمبريالية والعولمة، هذا ما جعلني أصف ممانعة المثقف لفتح ملفه ونقد تصوراته ومواقفه، بأنه يفكر بعقل أصولي رجعي، فيما هو يرفع راية التقدم ويهاجم التيارات الأصولية.

واليوم يتكرر نفس الموقف الأصولي، رغم تغير المعطيات. قد يلقى الكاتب من يهاجمه على سبيل التخوين والتهديد، أو من يوجه له النصح والتنبه، إذا لم يكن متطابقاً معه، ليس فقط في الخيار الإيديولوجي والموقف السياسي، بل أيضاً في الانتماء الطائفي.

 والطريف أن بعض هؤلاء ليسوا أهلاً لإسداء النصح لسواهم، لأنهم أصلاً، ليسوا كتاباً ولا مثقفين بالمعنى الحرفي للكلمة. فالكاتب هو من تشهد له كتاباته التي تترك أثرها في عقول القراء ووجدانهم، لكونها تتسم بأصالة الرؤية وغنى المعرفة وجمال الأسلوب، وعلى نحو يجعلها تسهم في توسيع الأفق الوجودي للكتابة، سواء من حيث مادتها ومنبعها، أو من حيث بيانها ونمطها السردي، أو من حيث عوالمها الدلالية والمفهومية.

2- المثقف: ليس مجرد مجاهد أو مناضل يتماهى مع قضيه مقدسة أو يدافع عن هوية ثقافية، وإنما هو صاحب مهنة (عالم، أديب، فيلسوف، فنان، صحافي..) لذا فهو، وأياً كان اتجاهه السياسي أو التزامه الايديولوجي تجاه هذه القضية أو تلك، إنما يقدم تحليلاً للواقع، يبني عليه موقفه وبه يسوغ خياره.

هنا أيضاً يجري الخلط بين المستويات، وتسود التعمية في ما يخص ماهيه الأعمال. هناك مثقفون يتقنون مهنهم برصد التحولات وقراءة المجريات وتشخيص المشكلات، وذلك باستخدام عدة معرفية فعالة، أو بتجديد هذه العدة التي قد تستهلك وتفقد مصداقيتها وفاعليتها على وقع الإخفاقات والتراجعات، أو في ضوء التحولات والمنعطفات.

هذا شأن مثقفين أختلف معهم وأنتقدهم (تشومسكي، بورديو، جيجك، طارق علي، صادق جلال العظم، آلان باديو)، ولكني لا أتوقف عن متابعة نتاجهم، لأنني أستفيد من اطلاعي على أعمالهم وقراءة تحليلاتهم للوضع العالمي أو العربي. وأنا إذ أنتقدهم، فلكي أسلط الضوء على مآزقهم الفكرية أو السياسية.

في المقابل هناك أناس يقدمون أنفسهم بوصفهم مثقفين يملكون الرؤية والعدة والطريقة، فيما هم مجرد ديناصورات فكرية، تكرر على نحو ممل الشعارات التي فقدت بريقها ومصداقيتها، على ما آلت إليه المشاريع في العالم العربي، سواء على جبهة الحداثة أو في معسكر التراث.

وكان علينا انتظار ثورات الناشطين والمدونين، في الميادين أو على الشاشات، إذ أيقظتنا من سباتنا الايديولوجي، بقدر ما أدهشتنا بما اجترحته من إمكانات هائلة كشفت لنا عن ادعائنا وعجزنا وجهلنا.

وبدلاً من الاعتراف بالحقيقة، نرى الديناصورات الثقافية تهرب من الاستحقاق الفكري والمعرفي: القيام بمراجعة الخيارات والحسابات، بالارتداد النقدي على الذات، لفحص أدوات المعرفة وقواعد العمل.. والحصيلة لذلك أن يناضلوا بأسلحة صدئة مفلولة، لكي يفاجأوا ويصدموا بالمتغيرات والمستجدات، بعد أن كانوا أصحاب مشاريع لتغيير العالم وصناعة التاريخ.

والمضحك أنهم يريدون للكاتب والمؤلف المشتغل في حقل من حقول المعرفة، أن يكون مجرد مناضل فاشل يمشي في ركاب هذا الزعيم أو يدافع عن سياسة هذا المحور أو يتمترس وراء هذا المعسكر.

وإلا كيف نفسر أن ينتهي مثقفون قضوا شطراً كبيراً من حياتهم يدافعون عن قيم الحرية والعدالة والحداثة والتقدم، يدافعون الآن عن دول تفتك بشعوبها، أو عن أنظمة تخرب بلدانها، أو عن حكومات كل ما تفعله هو انتهاك القوانين وممارسة الفساد والنهب أو التستر على الفضائح والارتكابات أو تغطية أعمال القتل والتفجير؟! للمثقف، أياً كانت مهنته، أن يؤيد خطاً سياسياً دون آخر، ولكن شرط أن يحتفظ باستقلاليته وحريته في التفكير، بوصفه يدرس ويشخص ويقدم اقتراحات لحل مشكلة أو للفكاك من أزمة، وبما يعبر عن قناعته وما يقوده إليه عمل الدرس والتحليل.

وهكذا فالمثقف، كعالم أو مفكر، هو من يحتاج الحكام والآخرون إلى أفكاره الحية والخلاقة، قبل حاجتهم إلى نضالاته، ولو كانت أفكاره تخالف من يقف معهم في خط واحد.

من غير ذلك يمارس مهمته النضالية السياسية، على حساب مهنته المعرفية أو مصداقيته الخلقية.

إن من يملك حساً نقدياً وعقلاً منفتحاً، لا يركن إلى ما يطرح من الشعارات، سيما من جانب الذين يمارسون الوصاية على الناس بوصفهم ملاك الحقيقة وحراس القضايا والأوطان والبلدان، فضلاً عن ملاك الدين الذين يوظفون الاسم والرمز والفكرة، لأهوائهم وأحقادهم، أو لنفاقهم وفسادهم، أو لإرهابهم ووحشيتهم.

هذا الموقف النقدي المستقل، هو خياري وسط صراع المذاهب والطوائف التي تسهم في تخريب العالم العربي، ما يحملني على أن لا أقف مع المطالب التي ترفعها جماعات طائفية في مواجهة الحكام ولو كانت محقة، لأن العمل الطائفي الآحادي في بلد متعدد، هو لغم يمزق المجتمعات ولا يعود بالنفع على أصحابه..

Email