علماء وخبراء وتحليلات عمياء

ت + ت - الحجم الطبيعي

صدّعنا علماء السياسة والاستراتيجيا خلال السنتين الماضيتين من عمر الربيع العربي، الذي جمع بين طياته كافة فصول السنة، بتحليلاتهم الأقرب إلى الأيديولوجيا منها إلى العلم ومعطياته الإجرائية الواضحة. فلم يكن علماء السياسة ولا خبراء الاستراتيجيا على المستوى التحليلي المطلوب منهم، ولم يستطع أي منهم، في غمرة تلك الأحداث المتلاحقة وزخمها المتواصل، أن يصل لتحليلات سياسية عميقة على شاكلة الدراسات الأميركية العميقة التي يلوكونها بألسنتهم ليل نهار.

ويلاحظ أيضا ضعف القدرات التنبؤية للباحثين في العلوم السياسية ومراكز الأبحاث التي تضمهم؛ فلم نجد مركزا بحثيا أو أيا من علماء السياسة والخبراء الاستراتيجيين، استطاع أن يتنبأ بمسارات الثورات العربية، أو توقع سلوكيات وممارسات جماعة الإخوان المسلمين في مصر وغيرها من جماعات الإسلام السياسي الأخرى، أو طبيعة الصراعات السياسية التي سوف تندلع في هذه الدول، أو التوجهات الأيديولوجية لدول الجوار نحو هذه الثورات، تأييدا أو معارضة.

إضافة إلى ذلك، لم يتحرك هؤلاء قيد أنملة نحو التنبؤ بإمكانية اندلاع ثورات عربية جديدة في دول أخرى في المنطقة أو عدمه، وتوضيح الأسباب المرتبطة بذلك.

والملاحظ أن معظم هذه التحليلات لم تجد طريقها لكتب علمية حقيقية، بقدر ما ظهرت عبر شاشات وسائل الإعلام المختلفة وعبر المقالات الصحفية التي لا تسمن ولا تغني من جوع. ورغم وفرة هذه التحليلات العابرة، فإنها اتسمت بالانحياز والتلون الأيديولوجي بشكل كبير، بحيث كنا نجد هؤلاء يغيرون تحليلاتهم وفقا لتحولات القوى السياسية وتغير الصراع السياسي.

ورغم كثرة الإجابات التي يقدمها هؤلاء، فإنهم لم ينطلقوا من تساؤلات محددة وواضحة وعميقة في الوقت نفسه. فقد قدم هؤلاء إجابات لتساؤلات ساذجة، لا تعبر عن متطلبات الواقع ولا تكشف عن طبيعة البنى السياسية ودعائمها الأخلاقية والقوى المشكلة لها.

واتسم معظم هذه التحليلات بقدر كبير من الوصفية، دون غلبة الجوانب التحليلية العميقة عليها، وهو ما جعلها تلهث وراء الأحداث اليومية، دون القدرة على الجمع بين هذه الأحداث وسبر غورها واستلهام الكامن وراءها.

فاللهاث وراء تلك الأحداث والتعاطي اليومي معها، وهدر القدرات التحليلية من أجلها، وإشباع نهم وسائل الإعلام المختلفة، أفقد معظم هذه التحليلات أهميتها، بل وأفقد القائلين بها مصداقياتهم التي وصلت إلى قول الشيء وعكسه من يوم لآخر، ومن ساعة لأخرى، حسب تغير نوع الوسيلة الإعلامية وتغير الاستديوهات.

فعلى سبيل المثال لا الحصر، هناك العديد من التساؤلات المنبثقة عن ثورات الربيع العربي لم يواجهها أحد، رغم مشروعية طرحها وأهميتها بعد مرور عامين على الثورات العربية.

وتشمل هذه التساؤلات: ما هي الأسباب الحقيقية التي دعت إلى اندلاع الثورات العربية المختلفة في مصر وليبيا وتونس وسوريا؟ وهل يمكن ردها فقط لأسباب تتعلق بالفساد السياسي والحرمان الاقتصادي؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما هي العناصر المشتركة بين دول الربيع العربي التي مثلت قاسما مشتركا لا مراء فيه أدى لاندلاع تلك الثورات؟ وهل لعب السياق الحضاري لكل دولة دورا في تحديد مسار كل ثورة، بحيث أننا وجدنا أمامنا أربعة مسارات مختلفة للثورات العربية، أم أنه يمكن القول بأن تلك المسارات المختلفة على مستوى السطح تشير في العمق منها لمسار واحد غير مكتمل الأركان في هذه الدول؟ وهل لعبت خصائص الشعوب في كل دولة دورا محوريا في مسار الثورة، أم أن الشخصية العربية واحدة تجاه ما يتعلق بسلوكيات الثورة وفهم الديمقراطية وحقائق التغيير؟ وهل يمثل الدين قاسما مشتركا بين القوى الفاعلة في هذه الثورات العربية، أم أن مسألة الدين ودرجة تأثيره في اندلاع الثورات العربية تحتاج لإعادة نظر جديدة في ضوء التحولات التي تشهدها دول الربيع العربي، وبشكل خاص مصر؟

هذه مجرد نوعية للأسئلة التي لم نجد لها إجابات بين علماء السياسة وخبراء الاستراتيجيا العرب، الذين فلقوا رؤوسنا ليل نهار بتحليلاتهم الباهتة منقطعة الصلة بالواقع العربي. وبعيدا عن توجهات الباحثين الأيديولوجية التي تفرض عليهم أطرا تحليلية مسبقة، فإن هناك العديد من الأسباب الكامنة وراء ضعف تلك التحليلات في السنوات الماضية من عمر الثورات العربية.

يأتي في الصدارة من هذه الأسباب، التربية الأكاديمية المهادنة لمعظم هؤلاء العلماء وخبراء الاستراتيجيا، التي تجعلهم يكتبون وعيونهم على صانع القرار وما يريد أو ما يرغب في سماعه، وهو أمر أفضى بمعظهم في رحاب المحافظة والتقوقع وإيثار السلامة.

وللموضوعية، فإن بعض الحكام العرب كانوا أكثر تقدمية وحركية من علماء السياسة وصناع الاستراتيجية. إضافة إلى ذلك، فإن هؤلاء يتسمون بالجبن في صك المصطلحات وصياغة الأطر النظرية، وهي مسألة تتعلق بالتربية الأكاديمية العربية التي تجتث إمكانيات الخلق والإبداع بين الطلبة والباحثين. وهو أمر وجد مؤشراته في ضعف الكتابات السياسية العربية، وضعف التنبؤ المرتبط بها، رغم ثراء الواقع وتنوع تحولاته على كافة الصعد.

Email