مرة جديدة تثبت الولايات المتحدة الأميركية أنها قصيرة النظر في التعاطي مع الأمم والشعوب، لا سيما عندما يتعلق الأمر بمستقبل دول بأكملها، وإرادة جماهير هادرة تخرج كالطوفان البشري بالملايين ولديها مطالب واضحة وأهداف محددة. هل أتاك حديث المعونات المالية الأميركية وثورة 30 يونيو الأخيرة في مصر؟
في ذلك النهار خرج طوفان الشعب المصري مطالبا بتغيير شكل الحكم في مصر، ومن بعد أن اجتمع مجلس إدارة مصر، أو جمعية مصر العمومية، قل كيفما تشاء، واتفق الجميع على خارطة طريق جديدة لبناء وطن، بعد أن كاد فصيل بعينه من المصريين أن يورد مصر موارد التهلكة.. ماذا كان من شأن الأميركيين؟
كالعادة نرى مواقف متضاربة ومتضادة بين الجهات الأربع التي تحكم عملية صناعة القرار هناك، والمتمثلة في البيت الأبيض، ووزارة الخارجية، والبنتاغون، والكونغرس الذي هدد بعض أعضائه، لا سيما من الجمهوريين، بقطع المساعدات العسكرية عن مصر، حال الإقرار رسميا بأن ما جرى في القاهرة هو انقلاب عسكري، وليس تصحيحا ديمقراطيا لمسار الثورة المصرية التي حدثت في 25 يناير.
يعن لنا في هذا المقام أن نتناول حال ومآل تلك المساعدات بشقيها؛ المدني الذي لا يتجاوز 200 مليون دولار سنويا، والعسكري وهو الأهم ويقدر بنحو 1.3 مليار دولار.. ماذا عن تلك المساعدات التي تهدد أميركا بقطعها من أجل إفشال ثورة المصريين؟ وهل هي نفع مطلق لهم دون فوائد جزيلة للأميركيين في المقابل؟
من البداية، كانت تلك المساعدات ترجمة واضحة للبراغماتية الأميركية منذ كامب ديفيد، وهدفت إلى تعويض مصر عن نزعها من سياقها العروبي والتاريخي، اقتصاديا وسياسيا وثقافيا، ومن ثم نشر النسق الرأسمالي الاستهلاكي فيها. ومن جهة أخرى، خلق واقع عسكري عقائدي ملتزم بالنهج الأميركي.. ما الذي حصلت عليه واشنطن في مقابل مساعداتها؟
خذ جانبا وعينة زمنية معينة أوردتها مجلة «ورلد بوليتيكس ريفيو»، في عددها الصادر في يونيو 2009، وفيه أشارت إلى التسهيلات العسكرية التي قدمتها مصر للولايات المتحدة في الفترة ما بين عامي 2001 و2005، ومنها السماح لحوالي 35 ألف انطلاقة طيران أميركية بعبورها المجال الجوي، وحوالي 850 شحنة بحرية للمرور عبر قناة السويس.
غير أن هذا كله لم يكن كافيا للدولة التي ترى في ذاتها «مخلص العالم»، ذلك أنه ضمن قائمة طويلة رفعت في بدايات عام 2010 من الاستخبارات المركزية الأميركية CIA إلى الرئيس الأميركي باراك اوباما، والتي تبرر ضرورة إسقاط مبارك وتغيير نظام الحكم في مصر، هو رفض مبارك إقامة قواعد عسكرية أميركية للطيران على البحر الأحمر. هل لدى الأميركيين، لا سيما أوباما تحديدا، نية حقيقية لقطع تلك المساعدات؟
يشك المرء كثيرا جدا في ذلك، فرغم خطوط الطول والعرض الجهرية والسرية التي ربطت الأميركان بالإخوان، والتزام الطرف الأخير بتنفيذ أجندات الأولين وتسهيل مهمتهم في الشرق الأوسط الكبير أو الجديد، فإن هناك لا سيما في المؤسسة العسكرية الأميركية، الواجهة الحقيقية للمجمع الصناعي العسكري الأميركي، ناهيك عن رموز عديدة في الكونغرس من الجمهوريين والديمقراطيين، من يرفض وبإصرار صبغ التغيرات المصرية بصبغة الانقلاب.
وعندما يتحدث الجنرال مارتين ديمبسي رئيس الأركان الأميركي، محذرا من القول إن ثورة 30 يونيو وما تلاها انقلاب عسكري، يدرك المرء ربما التوازن الواضح في الحاجة المتبادلة بين الجانبين لتلك المساعدات، ما يعني وبلغة العقل وبعيدا عن المشاعر والعواطف، أن الأميركيين غير قادرين على إفشال ثورة المصريين. ما الذي يمكن للمصريين فعله تجاه تهديدات الأميركيين وحتى لا يبقى حديث المعونات سيفاً مسلطا على الرقاب؟
«قبر يلمني ولا معونة تذلني»، هكذا باللهجة المصرية انطلقت حملة في جميع الدوائر المصرية عرفت بحملة 306306، وهي عبارة عن صندوق دعم مالي يساهم فيه المصريون، ولو بقروشهم القليلة، لحماية كرامتهم.
والمثير للعجب أن هذا الصندوق قد بات يلقى إقبالا عظيما، حتى وإن لم يكن فيه الحل المطلق اقتصاديا لكل مشاكل مصر في هذا السياق، لكنه يعكس تجلي الإرادة القادرة على شد الأحزمة على البطون والحفاظ على الكرامة الوطنية بالأسنان، وهو مشهد ليس غريبا، فقد عرفته مصر في أزمة بناء السد العالي، وفي زمن جمع التبرعات للمجهود الحربي بعد هزيمة 67.
الأمر الآخر هو ظهور الأشقاء الحقيقيين الذين لم يتخلوا عن مصر أبدا، وفي المقدمة منهم دولة الإمارات الشقيقة، التي فعلت في الماضي وفي ضوء هدي زايد الكبير والعظيم رحمه الله، وشعاره الخالد «النفط العربي ليس أغلى من الدم العربي»، لا تزال تفعل في الحاضر وستفعل في المستقبل.
الأمر لا يتوقف على الإمارات، فهناك بقية دول الخليج، وهناك رئيس البنك الدولي جيم يونغ كيم، الذي أشار إلى ضرورة دعم مصر وعدم الخوض في هوية ما جرى. والمحزن أن واشنطن تعرقل تلك المساعدات في إصرار أوبامي مقيت، لإرجاع عقارب الساعة إلى الوراء..
هل عرف دافيد زكريا الآن الجواب على سؤاله الشهير: لماذا يكرهوننا؟